هذا الشاب الفلسطيني ابن غزة الذي لم يكن له شبيه بين أقرانه، لم تأخذه الدنيا نحو زخرفها، وهب نفسه لله، بل وهبت أمه ما في بطنها قبل ولادته لله، فكان أحمد نصر الله، الشاب المتميز في كل شيء، المختلف حتى في تميزه.
قبل يومين ارتقى الشرطي الذي تعرفه شوارع جباليا، وحده في معركة، بعيدا عن عائلته، أشقائه وشقيقاته وأمه، وحينما قررت العائلة في بداية هذه الحرب النزوح جنوبا رفض، وطلب من أمه أن تسمح له بالبقاء ليجاهد فذلك هو السعي الذي طالما كان يركض وراءه.
باركت أمه، وقالت له اخرج، وهبتك في سبيل الله، وهناك كانت البداية، أو كانت نهاية اللقاء، ورغم أنه ارتقى بعد عام من البعد عنها، إلا أنها كانت فخورة بما أنجبت، وما أنجبته لم يكن إلا فخرا لها.
قبل عامين تخرّج أحمد نصر من كلية الشرطة في قطر، كان مبتعثا للدراسة هناك، مبعوث وحيد من غزة، عن جدارة وتفوق حصل على المنحة، وهناك حقق ما هو أكبر، تفوق على كل أقرانه، حصل على أعلى معدل في تاريخ كلية الشرطة في قطر، وكرمه الأمير تميم بنفسه، وكان بإمكانه أن يبدأ رحلة جديدة كأستاذ في الكلية هناك، ولكنه لم يقبل، فضّل العودة إلى غزة.
يقول شقيقه محمود: "لم أعرف في حياتي شخصا كشقيقي أحمد، في أخلاقه الرفيعة، ودينه، وتفوقه، حفظ القرآن وهو في عمر العشر سنوات، وكلنا فعلنا مثله، لكنه كان متفوقا بالدراسة كثيرا، تخرّج من الثانوية العامة بمعدل 95% وحصل على منحة الشرطة في قطر وكان الوحيد الذي حصل عليها من غزة".
يكمل الشقيق فخورا رغم حزنه على فراق أخيه: "حينما رحلنا إلى الجنوب لم يقبل الرحيل، شعرت أنه كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، وكانت حلمه الأول، رغم الفرص التي كانت أمامه في قطر، والحياة في البلاد التي تعتبر حلما لكثيرين غيره، ولكن حلمه الأول، وسعادته الأهم كانت في العودة إلى غزة".
عاد إلى المعارك في جباليا في الاجتياح الأول والثاني، ثم عاد في هذا الاجتياح، كان ينزح إلى المدارس وأماكن كثيرة في الشمال، ثم يعود في اللحظة التي يجب عليه فيها أن يقاتل وفقا للتعليمات التي يتلقاها.
وقد تجرع لوعة الفقد حينما استشهد أبوه في اليوم الثالث للحرب، وهو يحاول إغاثة وإجلاءهم من منزلهم المقصوف إلى منطقة أخرى بسيارته، كان صائما حينما أطلقت طائرات F16 صاروخا بجانب سيارته وارتقى شهيدا.
يقول محمود: "اشتاقت له أمي كثيرا، منذ استشهد أبي وبدأت المناطق الشمالية بالنزوح إلى جنوب الوادي، نزحنا ولم يقبل أحمد الرحيل معنا، وأصر على البقاء وكانت أمي تصبر نفسها وتقول قريبا ستراه، حتى ارتقى شهيدا رحمه الله، لقد كان دائما يخبرني بعد استشهاد والدي أننا مشاريع شهادة، وبأن علينا جميعا أن نحارب هذا العدو لأجل تحرير الوطن".
كلما نظرنا إلى سيرة أحمد ورفاقه، عرفنا أن الشهادة اصطفاء، وبأن هذا الشرف لا يبلغه إلا من كان أهلا له، حافظا لكتاب الله، متفوقا، رافعا علم وطنه خارج غزة، عارفا طريق العودة، دون أن تغيره ملذات الحياة، وهذا هو من يستحق الشهادة والحرية.