أسطورة المقاومة أسطورة المقاومة

جعلنا لمهلكهم ترمب

جعلنا لمهلكهم ترمب
جعلنا لمهلكهم ترمب

د. محمد إبراهيم المدهون

 
منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، وجد الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه أمام أكبر اختبار أخلاقي وسياسي في تاريخه. لكنه لم يتردد، بل انحاز بلا خجل إلى جانب الجلاد، وأدار ظهره للضحية. لم يكن وسيطًا نزيهًا، ولا حتى مراقبًا حياديًا؛ بل كان شريكًا كاملًا في الجريمة، مشاركًا في الوقود، والسلاح، والتبرير، والغطاء الدبلوماسي، والإرهاب الدولي.
 
الرئيس الذي جاء بشعار "استعادة روح أمريكا"، بدا كمن فقد روحه تمامًا، وهو يمنح الاحتلال صكوك الغفران لمحرقة تُرتكب على الهواء مباشرة، بينما الأطفال يُنتشلون من تحت الركام، والمستشفيات تُقصف، والعالم يحتج، وهو يتمسّك بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وكأن غزة ليست بشرًا، ولا دماءهم دماء! في عهده، تحوّلت الإدانات إلى بيانات باهتة، والتحذيرات إلى تغريدات باردة، بينما كانت الطائرات الأمريكية تمطر الموت على رؤوس الأبرياء.
 
لم يستطع بايدن فرض وقف لإطلاق النار، ولا كبح جماح نتنياهو. بل ظهر كأضعف رئيس في تاريخ أمريكا الحديث، يقرأ من ورقة صاغها نتنياهو، ولا يجرؤ حتى على التعديل أو الإلزام. تاريخه الطويل في السياسة لم يشفع له، ومواقفه "المرتعشة" انكسرت أمام مشاهد الإبادة التي بثّتها غزة للعالم، حتى تحوّل إلى رمز للضعف والتواطؤ.
 
أما في الداخل الأمريكي، فالصورة أكثر قتامة. بايدن بدا أضعف من أن يواجه نتنياهو، بل أسيرًا لتوازنات داخلية، وضغوط لوبيات، وانقسامات حزبه، وشيخوخة خطابه. الشارع الأمريكي، وخصوصًا الشباب، بدأ يتمرّد على السردية التقليدية. المظاهرات المؤيدة لفلسطين في الجامعات والمدن الكبرى كشفت حجم التغير في المزاج العام. لم تعد السردية الصهيونية مسلّمة، ولا "حق إسرائيل" ذريعة مقبولة.
 
وعلى الصعيد الدولي، فشل بايدن في أكثر من ملف: من الانسحاب المهين من أفغانستان، إلى التخبّط في الملف النووي الإيراني، وصولًا إلى العجز أمام روسيا، والتراجع أمام الصين، والانكفاء الداخلي في معالجة أزمات التضخم والبطالة. كل ذلك جعله رئيسًا ضعيفًا في عيون ناخبيه، حتى قبل أن تغرقه محرقة غزة.
 
حتى خصومه السياسيون وجدوا في محرقة غزة فرصة للانقضاض عليه، واتهامه بالخنوع أو التواطؤ. وها هو ترمب يعود إلى المشهد، متوعدًا بـ"صفقة قرن جديدة" أكثر وقاحة وشراسة، عائدًا كـ"منقذ محتمل"، محاولًا استثمار فشل بايدن في الشرق الأوسط، ليعيد تقديم نفسه كصاحب القول الفصل، بوقف إطلاق نار مؤقت تمهيدًا لتمرير "الصفقة الكبرى" التي حاول بيعها سابقًا بسيناريو أكثر تطرفًا. ومن المتوقع أن يُسرّع تطبيقها، ويزيد الضغط على الفلسطينيين والدول العربية، ويدعم الاحتلال اليميني الفاشي بلا حدود.
 
ترمب، رغم خطابه الفج، لم يختلف كثيرًا عن بايدن. كلاهما ينطلق من ذات العقيدة السياسية: دعم مطلق للإبادة، وتجاهل كامل للحقوق الفلسطينية. الفرق الوحيد؟ أن بايدن يرتدي قفازات دبلوماسية ناعمة، بينما ترمب يستخدم القبضة الحديدية بلا خجل. وبين هذا وذاك، تغرق غزة في الدم.
 
ورغم الألم، تبقى محرقة غزة نقطة تحوّل تاريخية. فهي ليست مجرد وصمة في جبين بايدن وترمب وأمريكا، بل شرارة لتغيّر قادم في موازين القوى، والسردية، والرأي العام، والمواقف، والحسابات. من تحت الركام تبزغ الحقيقة، ويعلو الصوت الفلسطيني ليقول: نحن هنا، نُقتل أمامكم، لكننا لا نُمحى.
 
بايدن خسر إنسانيته، وأسقط حزبه الديمقراطي، وأمريكا فقدت هيبتها الأخلاقية. أما غزة، فثبتت أنها ليست مجرد جغرافيا تحت الإبادة الظالمة، بل بوابة التغيير للعالم كله. بايدن والديمقراطي خسر الانتخابات، لكن ما خسره من ضميره وإنسانيته لا يُعوّض. وأمريكا ترمب لن تحاول ترميم صورتها، فقد "جعلنا لمهلكهم ترمب"

`
البث المباشر