د.عدنان أبو عامر
تعيش الساحة العسكرية الإسرائيلية منذ عدة أسابيع حالة من الاستنفار والقلق المتزايد، في ظل ما يحصل داخل الأراضي المصرية من تغيرات دراماتيكية، لاسيما وأنه منذ ثلاثين سنة تقريبا لم تسأل أي حكومة إسرائيلية جيشها: ماذا لديك في مواجهة الجبهة المصرية، وماذا ينقصك، وكم من الوقت تحتاج كي تستعد، وكم سيكلف ذلك؟
كما لم يطلب المستوى السياسي أن يُعرض عليه خطط عسكرية مع جداول زمنية وترتيب أفضليات، لوضع تحول استراتيجي في الساحة المصرية، ومع ذلك، فإنه منذ ثلاثين سنة حلقت هذه الأسئلة في الفضاء، وبقي المستويان السياسي والعسكري في إسرائيل يدفنان رأسهما في الرمل، وأفسدا القدرات الميدانية في مجابهة ما قد يحدث في مصر.
• "عقم" في المعلومات
وفيما يفسر كبار المحللين العسكريين في إسرائيل مضاءلة القدرات العسكرية في هذه الجبهة إلى الحد الأدنى بأنها إجراء طبيعي، وجزء من ثمار السلام مع مصر، لكنهم في ذات الوقت يستنكرون ظاهرة "محو المعلومات" التي تجمعت طوال السنين عن هذا الميدان، ويعتبرونها جريمة لا تُغتفر، بحيث أعفت الجهات الإسرائيلية نفسها من جمع المعلومات الاستخبارية لاحتياجات عملياتية وتكتيكية.
خاصة وأن فقدان المعلومات لا يقاس بالميزانيات الضخمة، والفرق العسكرية، والطائرات الجوية، فالحديث يدور عن أشخاص وجماعات عمل يحتفظون بقدرات كالنظريات القتالية والمعلومات الاستخبارية، لأن مراكز المعلومات هذه هي بمثابة الأركان التي يمكن البدء اعتماداً عليها في اليوم الذي يُعطى فيه إنذار لبناء القوة، لكن زمناً طويلاً مر منذ تلك الأيام التي كان فيها جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" يعرف الضباط المصريين معرفة حميمة، ويعرف عن كل وحدة عسكرية مصرية تدخل سيناء، أو تخرج منها.
يعتقد العسكريون الإسرائيليون أن الجبهة المصرية تختلف اختلافاً جوهرياً عن جبهات بنى الجيش نفسه في مواجهتها في العقود الأخيرة، كالفلسطينية واللبنانية والسورية مثلاً، ولذلك ليس غريباً أن نجد أن المعلومات التي تم جمعها، والنظريات القتالية، والقدرات التي بُنيت في مواجهة الجبهة الشمالية، يمكن أن تخدم فقط الجبهة الغربية في سيناء خدمة جزئية، لأنه ببساطة إذا بحث أي جنرال إسرائيلي اليوم عن نظرية قتالية تلائم صحراء سيناء فلن يجدها في أي مخزن، ربما يجدها في متحف الجيش الإسرائيلي فقط.
• استخبارات خاطئة
أثبتت أحداث الثورة المصرية خطأ الاعتقاد الذي كان سائداً لدى الاستخبارات العسكرية سنوات طويلة، وسار عليها اللواء "افيف كوخافي" الرئيس الجديد للجهاز، كسلفه اللواء "عاموس يادلين"، ودار الحديث حينها عن تصور تبسيطي جداً رسم سيناريو يتمثل في أن إدارة مبارك ستنقل السلطة بصورة منظمة إلى مسئولين كبار في جهاز الأمن المصري برئاسة عمر سليمان، فينقلها بسلاسة إلى جمال مبارك.
في حين خالف رئيس الشعبة السياسية الأمنية في وزارة الدفاع "عاموس غلعاد"، وقائد المنطقة الجنوبية السابق "يوآف غالنت"، ذلك الاعتقاد بقولها أن الذي سيحرز السلطة في مصر سيكون الجيش وليس عمر سليمان، سواء تم ذلك على نحو منظم أم لا! باعتبار ساد لديهما يرى بأن الجيش نفسه هو وكيل السلطة في مصر، وهو من يعطيها للحاكم باعتبارها وديعة، ولذلك فهو الذي عين عبد الناصر والسادات ومبارك.
ولذلك، فقد عرض "غالنت"، على هيئة الأركان العامة مطالب أساسية تتعلق ببناء قدرات في الجبهة المصرية، مثل تحديث النظرية القتالية، وتنظيم تعاون بين الأذرع، وإنشاء قيادة سيطرة، واستكمالات قادة، وحشد معلومات، إلا أنه جوبه برفض قاطع من قبل شعبة الاستخبارات وفرقة العمليات في هيئة الأركان، برغم أن الحديث كان عن نفقات قليلة، مع العلم أن القائد الجديد للمنطقة الجنوبية اليوم "تال روسو"، القادم من رئاسة شعبة العمليات، ما زال متمسكاً بالتصورات القديمة لهيئة الأركان العامة قبل سقوط مبارك!
ما يطمئن العسكريين الإسرائيليين أنه لو حدث في مصر تحول يفضي إلى نقض اتفاقات السلام، وإعادة السفراء، فان الإدارة الأمريكية ستقطع عنه التزود بالمعدات، وسيحصل له ما حصل للجيش الإيراني والقوات المسلحة الإيرانية بعد سقوط الشاه أواخر السبعينات، لكن ذلك يحول بينه ما يتعلق بأن التنبؤات المعتمدة على هذه الفروض الأساسية مشكوك فيها من الأساس، والدليل على ذلك مفاجأتنا غير السارة بما حصل في مصر مؤخراً.
مع العلم أن الخبراء العسكريين في الغرب المتابعين للجيش المصري في السنين الأخيرة يتحدثون بيقين عن أن إسرائيل تمثل "التهديد الواقعي" الذي يقوم في أساس بناء القوة العسكرية في مصر، بعد شكاوي قدمها "عاموس غلعاد" على مسامع المصريين بأنهم يُجرون تدريبات تُعرف فيها إسرائيل بأنها عدو، خاصة وأن الليبيين والسودانيين ليسوا تهديداً حقيقياً للمصريين.
• مصير الجيش المصري
لكن أي خطط هجومية مصرية، لابد وأن تشتمل على اجتياز 300 كم في صحراء سيناء، ووقوف أمام الحدود الإسرائيلية، وهو ما يتطلب مساراً طويلاً من الشراء والتدريب وبناء قدرة لوجستية وتنظيم الخطط العملياتية، خاصة وأنه حسب اتفاق "كامب ديفيد" يحق لهم في المنطقة التي تُعرف بأنها "المنطقة أ" من شرقي القناة حتى المعابر، أن تكون لهم قوة عسكرية مقدارها فرقة، وقد نشروا هناك ثلاثة ألوية.
وهكذا يمكن النظر لهذه المنطقة باعتبارها منطقة سينتشر فيها الجيش المصري في المرحلة الأولى من الحرب المفترضة، كما أنهم خلال السنين الماضية بنوا فيها عشرات المعابر التي تُسهل الدخول، ومدوا فيها أنابيب ماء ووقود تمر تحت قناة السويس، كما بني نظام دفاعي يشتمل على خنادق مضادة للدبابات وثكنات وأمور أخرى.
أخيراً.. فإن من يتولى قيادة الجيش الإسرائيلي اليوم هم من يطلق عليهم "خريجو" حربي لبنان الثانية وغزة، الذين أظهروا قدرات متوسطة جداً في إعداد القوة واستعمالها، ورئيس هيئة الأركان الجديد "بيني غانتس" ومن حوله في هيئة القيادة يواجهون تحدياً تنظيمياً كبيراً يقتضي قرارات كبيرة: فالأزمة في مصر، وإعداد خطة العمل لسنين متعددة، يجب ان تأخذ في الحسبان التغييرات في الشرق الأوسط، فهل سيعرف الجنرالات الذين يقودون الجيش اتخاذ القرارات الصحيحة وفي الوقت الصحيح؟ وإذا لم يكونوا كذلك، فللحكومة هنا دور حاسم بأن تجلس فوق وريد الجيش، وتطلب أجوبة في جداول زمنية معقولة، كي لا تفاجئنا مرة أخرى مفاجآت في التصورات العامة.