مقال: لماذا جنح الجيش الإسرائيلي للتهدئة هذه المرة؟

د. عدنان أبو عامر

عاشت الأوساط الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية حالة من الضغط الميداني بسبب ما قيل أنه "إرباك" واضح في كيفية التعامل مع التدهور المفاجئ للوضع الأمني على الحدود مع قطاع غزة.

ففي حين اعتبرت الأوساط العسكرية أن ما قام به الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة "رداً على إطلاق الصواريخ" ظل محدوداً، مرجحة أن السبب في ذلك يعود لزيارة رئيس الحكومة، "بنيامين نتنياهو"، إلى روسيا، وأن الجيش سيصعد من هجماته على القطاع فور عودته، أو أن السبب يعود إلى عدم وجود "أرباح تجنيها" إسرائيل من التصعيد، خاصة وأن الغارات التي شنها سلاح الطيران على القطاع، بدت كأنها خطوة "رمزية وفارغة المضمون"، أو كـ"عُبوة ناسفة" لكنها خالية، لأنها استهدفت في معظمها مباني قديمة وغير مأهولة، أو مواقع أخرى تم قصفها عدة مرات في السابق.

في حين لفتت الأنظار إلى تصريحات سابقة لوزير الدفاع قال فيها أنه سيدرس حجم الرد، معلناً تصميمه على إعادة الهدوء الذي لا يمكن بدون استخدام القوة بين المرة والأخرى، حيث عكس هذا التصريح حالة التخبط في القيادتين السياسية والعسكرية، وإلا فكيف يمكن وقف إطلاق النار الذي توسع ووصل مدينة "ريشون ليتسيون" دون الانجرار إلى مواجهات واسعة النطاق تتضمن حملة برية للجيش في قطاع غزة؟

ولذلك، فإن هناك إشارات على أنه من ضمن الخطوات التي تجري دراستها تجديد عمليات الاغتيالات، المسماة في القاموس العسكري الإسرائيلي "الاستهداف الموضعي" لقادة المنظمات المسلحة، مع العلم أنها تستهدف حاليا الخلايا العاملة على إطلاق الصواريخ.

في السياق ذاته، عبر عدد من جنرالات الجيش عن اعتقاده بأن نصب "القبة الحديدية" لا داعي له، ويجب إرجاء ذلك لـ"الحرب الحقيقية" من أجل الدفاع عن البنى الإستراتيجية، وقواعد سلاح الجو بهدف ضمان تواصل إقلاع الطائرات من أجل شن الهجمات على القطاع، رافضين ما يساق من تبريرات من قبل المستوى السياسي، بأنها أتت متأخرة، وأن الرفض المتكرر بشأن امتلاك بطاريات إضافية ونشرها، جعل (إسرائيل) في زاوية غير مريحة، والآن فإن المنظمات هي التي تفرض موعد استخدام "القبة الحديدية"، وهو ما كان متوقعاً منذ عدة شهور.

 يوم الحساب

في ذات السياق، أكدت محافل عسكرية إسرائيلية أن تل أبيب أوصلت رسالة واضحة لقيادة حماس في غزة مفادها أنه في حال استمرار إطلاق الصواريخ، فإنها ستجدد الاغتيالات، واستهداف قياداتها السياسية والعسكرية، وأن ما وصفته بـ"يوم الحساب" سيكون قريباً، حيث ستكون قيادة حماس "مستهدفة".

من جانبها، أعربت محافل سياسية واسعة عن معارضتها للقيام بعملية عسكرية أخرى على غرار عملية الرصاص المصبوب في قطاع غزة، ورأت أنه ما من جدوى في خوض حرب استنزاف في القطاع، إلا إذا كان الهدف منها إسقاط سلطة حماس، رغم تأكيدها بالقول: محظور أن نصبح كلباً "يعوي ولا يعض"!

في ذات الوقت، فإنها أكدت أن إسرائيل لن تصبر على ما وصفه بأي تصعيد يوجه لها، لكن محاربة حماس لا تحتاج ضربة واحدة فقط، ولكن إلى عمل طويل ومعقد ضده، وليس هناك من مصلحة لإسرائيل في الانجرار إلى مواجهة معها, وإن اضطرت لذلك، فإن الرد سيكون شديداً جداً ومؤلماً.

ومنذ الحرب الأخيرة على غزة، يقوم الجيش الإسرائيلي بـ"نشاط اعتيادي" على الحدود مع القطاع، ويضرب بعض الأهداف المحددة للمجموعات التي تحاول إطلاق قذائف أو صواريخ، أو ضرب بعض أنفاق تهريب السلاح، ومراكز التدريب، في حين لم تدخل قواته إلى داخل التجمعات السكنية، ومع ذلك فإن تدهور الأوضاع واستمرار إطلاق الصواريخ قد يدفع به للقيام بعمليات مختلفة، وعلى رأسها الاغتيالات.

لكن مصادر ملاصقة لرئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" أعربت عن اعتقادها أنه غير متحمس لإطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة عقب تصعيد الهجمات الصاروخية، غير أن وزير التعليم "غدعون ساعر" رجح أن تُضطر إسرائيل في نهاية المطاف للقيام بعملية عسكرية واسعة في قطاع غزة ستكون أكبر من عملية "الرصاص المصبوب" التي جرت قبل أكثر من عامين.

في سياق متصل، توقعت مصادر عسكرية قرب اندلاع حرب إسرائيلية جديدة ضد الفلسطينيين، بعد توالي الردود الفلسطينية الانتقامية على الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، واعتبرته إسرائيل تهديداً لأمنها بعد وصول الصواريخ الفلسطينية قرب تل أبيب، وهو ما يحتم ضرورة توجيه ضربة عسكرية حاسمة للنشطاء في قطاع غزة، مما يجعلنا نقترب خطوة نحو حرب جديدة في الشرق الأوسط، خاصة أن الهجوم الصاروخي الأخير سقط في منطقة غير مأهولة تبعد 15 ميلا جنوبي تل أبيب.

وبالتالي فإن رؤية هذا الصاروخ يسقط بالقرب من عاصمة إسرائيل، يزعزع ثقة الإسرائيليين الذين اعتادوا على رؤية الصواريخ من درجة منخفضة وقذائف الهاون، دون أن تسبب أذى، وتسقط معظمها في مناطق قريبة من غزة، ولكن نادراً ما يشعرون بأنهم مهددون في مدنهم مثل تل أبيب.

كما أن ما وصفته بـ" الخطاب المتشدد" من الساسة الإسرائيليين في الأيام الأخيرة، يذكرنا بنفس اللغة المستخدمة قبل عملية الرصاص المصبوب، التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة نهاية 2008 وبداية 2009، وخلفت نحو 1400 قتيل فلسطيني، وجعل هذا الخطاب المعلقين يتساءلون ما إذا كانت إسرائيل تستعد لهجوم بري جديد على قطاع غزة؟

مع العلم أن الجيش يدفع نحو التصعيد، ففي مداولات تقويم الوضع التي أجرتها المستويات السياسية والعسكرية، أبدى الجيش نهجاً جديداً، باعتبار أن المواجهة مع حماس في قطاع غزة تكاد تكون "قدراً من السماء"، إن لم يكن الآن، فبعد سنة أو سنتين، وإذا لم نعمل اليوم، فسندفع ثمن التصعيد المتدرج حتى المواجهة الشاملة، ما يتطلب من الجيش أن يعزز الردع الذي تآكل منذ عهد عملية "الرصاص المصبوب".

"كوابح" جديدة

وقد أجمعت نخب واسعة من الأقلام الإسرائيلية على أن "الهدوء الأمني النسبي" الذي تمتعت به إسرائيل في السنتين الأخيرتين، وصل نهايته، ففي حدود قطاع غزة يبدو ملحوظاً في الأيام العشرة الأخيرة تصعيد في تبادل إطلاق النار بين حماس والجيش الإسرائيلي.

ما يعني أن احتدام المواجهة في الجنوب يذكرنا بأحداث مشابهة في الماضي غير البعيد، فبعد فترة من تبادل إطلاق النار بمستوى منخفض نسبياً، أطلقت حماس 50 قذيفة هاون نحو غربي النقب، وردت إسرائيل بسلسلة هجمات من الجو وبنار الهاون، وقتلت عشرة ثمانية فلسطينيين.

     ومع ذلك، فإن على تل أبيب تهدئة التصعيد، بدلا من الانجرار لحملة جديدة في غزة، لأنها قد تحمل أضراراً جديدة على إسرائيل على النحو التالي:

1- الحملة الأولى لم تحقق الردع لزمن طويل، ولا يوجد ما يجعل حملة استكمالية من ذات النوع أكثر نجاحاً،

2- الوضع السياسي لإسرائيل يختلف جوهرياً عما ساد قبل سنتين، فإسرائيل معزولة في العالم بسبب رفضها الوصول إلى حلول وسط مع الفلسطينيين، وتمسكها بتنمية المستوطنات،

3- إدارة أوباما لن تؤيد كسلفها استخدام القوة في محيط مدني،

4- تل أبيب لا يمكنها أن تعتمد على دعم الحكومات الغربية التي وفرت لها الإسناد في الماضي.

 

البث المباشر