لمى خاطر
لا أدري بعد فيما إذا كان علينا أن نُدهش أم نأسى لقدر الجرأة والثقة التي يتمتع بها منظمو (مهرجان رام الله للرقص المعاصر) وهم يعلنون عن أهداف تنظيم هذا الحدث الثقافي (المهم) والمتمثلة في: " تعزيز لغة الحوار والتبادل الثقافي بين الشعب الفلسطيني وشعوب العالم، وتعريف الشعب الفلسطيني على أشكال مختلفة من الرقص المعاصر، وتطوير قدرات الراقصين الفلسطينيين، ويستهدف الجمهور الفلسطيني بشكل عام، والشباب بشكل خاص"!
لن أتناول الحدث من منظور ديني بحت، أو وفق مقاييس الحلال والحرام، فهذه لها من يعبّر عنها، ولا حتى من منطلق تضادّ مثل هذه الفعالية مع قدر الألم والمعاناة التي يعيشها شعبنا تحت الاحتلال، لأن هناك من سيحتج بأن من حقنا شعبنا أن يفرح، وأن يهرب إلى ما ينسيه واقعه، وأن يطور تقاليده الفنية والثقافية، وألا يسمح للاحتلال بأن يحرمه فرصة الرقص (طربا) ليفرض عليه أن يرقص فقط (مذبوحاً من الألم)!
بل سأتحدث هنا عن ذلك المنطق الذي يسود أوساط النخب الثقافية العلمانية وهي تنظّر لحرية فردية بلا حدود، ولآفاق ثقافية وفنية مفتوحة على الغارب، لا تتوقف عند اعتبارات الأخلاق أو الحياء، بينما نجدها في المقابل تسعى لتحجيم دور منابر الفضيلة والتدين في المجتمع، وتبرر قمعها وحظر نشاطها بدعوى التخوف من انتشار التطرف الديني!
فالحرية الفردية تتوقف في عرف هؤلاء حين يصبح هناك نزع نحو التدين، وحين تسري روح الفضيلة في المجتمع، أو يصبح العرف العام رافضاً لمظاهر دخيلة عليه، وهم ينافحون بأقصى طاقاتهم ضد الأصوات المعارضة لنهجهم الانفتاحي، ولا يتفهمون أي احتجاج مناوئ له، وكل بذلك بدعوى الحرية، ورفض إقحام الدين في الشؤون الثقافية والفنية.
غير أنهم في المقابل يباركون تحجيم الروح الدينية داخل المجتمع وتقييد امتدادها بقوانين قمعية، لأنهم يعون تماماً معنى أن يُخلّى ما بين الشعب وفطرته، وأن يترك للشعب الاختيار ما بين النقيضين، وأن تكون الفرصة التي تمنحها الجهات الرسمية لمظاهر الانفتاح مساوية للمنوحة للنشاط الديني العام!
وفي حالة رام الله، لم يعد من قبيل التعسف القول إن هناك حالة من الإفساد تستهدف المجتمع وقطاع الشباب بالدرجة الأولى، وإن هناك في المقابل حالة تجفيف شبه كاملة لمنابع التدين ونشاطه، وخصوصاً النشاط المسجدي ودور تحفيظ القرآن، وكل ما يتفرع عن ذلك، وإن القيود التي تفرضها وزارة الأوقاف (الهباشية) على الخطباء والوعاظ تعزز حالة الإفساد تلك، وتدفع باتجاه تمييع الخطاب الوعظي الديني وأسره في قوالب جامدة وباهتة لا تحقق شيئاً من مقاصده الأصيلة، بل تأتي بنتائج معاكسة في الغالب.
غير أن ما يبعث على العزاء أن هذا النهج مكشوف منذ يومه الأول، لأن شعبنا خبر الروح الدينية جيداً وعاش ردحاً طويلاً من الزمن والمساجد مكون رئيسي في حياته، ولذلك نجده اليوم مبصراً بأهداف القيود التي تفرض على وعيه وإرادته وتجليات فطرته الدينية في واقعه، كما أنه في المقابل يعي تماماً خلفيات الحرية المطلقة التي تحظى بها الجهات الراعية للانفتاح حتى وإن كان تحت مسمى التبادل الثقافي!
لمنظمي مهرجان رام الله أن يطلقوا بين يديه ما شاؤوا من توصيفات ثقافية وفنية تعبر عن تاريخية الحدث وأهميته، لكننا نرجو ألا يتطور الأمر إلى نعته بالحدث الوطني المقاوم للاحتلال، فحالة المسخ التي غزت مختلف المفاهيم باتت تستوعب أن يدرج حدث كهذا ضمن مؤشرات الجاهزية لإعلان الدولة القادمة، على اعتبار أن الترف والرقي بلغ بنا مبلغاً لم يعد يعوزنا فيه سوى تعلّم فنون الرقص لدى الأمم الأخرى!