عدنان أبو عامر
منذ تشكيل الحكومة "الإسرائيلية" الحالية في مارس آذار الماضي، دشنت وزارة خارجيتها التي يترأسها "حارس البارات" السابق "أفيغدور ليبرمان" حملة محمومة لتوثيق علاقاتها مع عدد من دول العالم، وقام بتنفيذ تفاصيلها بنفسه، عبر قيامه وطاقم وزارته بزيارة عدد من البلدان التي لم تطأها أقدام مسئولين "إسرائيليين" من قبل، على الأقل علنياً.
وقد شملت الجولات الدبلوماسية التي أجرتها وزارة الخارجية "الإسرائيلية"، مختلف أصقاع الدنيا تقريباً، بدءاً بـ"القارة السوداء"، ومروراً بـ"الحديقة الخلفية" للاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاءاً بأمريكا اللاتينية.
هذا التحليل يقدم قراءة هادئة لهذا السلوك الدبلوماسي في ظاهره، والأمني والاقتصادي والعسكري في باطنه، محاولاً استكشاف المرامي الحقيقية للسياسة الخارجية "الإسرائيلية" في هذه الحقبة من الزمن.
** "ليبرمان" في أفريقيا
لم تحظ القارة السوداء بالاهتمام الواسع طوال العقود الماضية من قبل السياسة الخارجية "الإسرائيلية" بالقدر الذي عليه اليوم، وإن كانت هناك بعض المهام نفذتها الجهات الأمنية "الإسرائيلية" خلف الكواليس، إلا أن الجولة الأفريقية التي قام بها "ليبرمان"، في الثلث الأول من أيلول سبتمبر الماضي، وشملت: إثيوبيا، كينيا، غانا، نيجيريا، أوغندا، امتازت بعدد من السمات التي تشير بصورة واضحة لأهدافها الحقيقية:
فقد اصطحب الوزير معه عشرين من رجال الأعمال في مجالات: الطاقة، الزراعة، النقل البحري، المياه والبنى التحتية، الصناعات الكيماوية، والإعلام.
كان من بين أعضاء الوفد ممثلين كبار لوزارات: الخارجية، المالية، الدفاع، مجلس الأمن القومي، دائرة المساعدات الخارجية في وزارة الجيش، مندوبين عن تجار الأسلحة وشركات صناعتها.
شمل برنامج الزيارة الأفريقي لقاءات على أعلى المستويات السياسية، وافتتاح منتديات اقتصادية مشتركة مع الدول المضيفة، وتوقيع اتفاقيات لتوسيع التعاون في مجال إدارة مصادر المياه وإدخال طرق ري حديثة إلى القطاع الزراعي، والصحة والتعليم والأمن وخدمات الطوارئ والطاقة، وصيد الأسماك، والطب وإدارة الموارد المائية وزيادة حجم التبادل التجاري.
توقيع مذكرات تفاهم وتعاون مع الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وهي منظمة تضم 15 دولة، منها ثلاث دول لا تقيم علاقات مع "إسرائيل" هي: غينيا ومالي والنيجر.
تدشين مركز لتنمية القوى البشرية في مجال الزراعة بإثيوبيا، وإهداء كينيا معدات زراعية، والالتقاء بأبناء الطائفة اليهودية فيها، وافتتاح حلقة دراسية في مجال التجارة والأعمال في نيجيريا، والمشاركة في احتفال تذكاري لضحايا عملية الإنقاذ في عنتيبي 1976.
الحرص في كل محطات الجولة على التأكيد على دور أفريقيا في عملية التسوية للصراع العربي-"الإسرائيلي"، و"مطاردة" النفوذ الإيراني، ومحاربة الجماعات المسلحة في أفريقيا.
وقد أكد "ليبرمان"، في الجانب العلني من جولته، على استعداد "إسرائيل" لمساعدة الدول الأفريقية على حل مشاكلها، كمواجهة الجوع والنقص في المياه، والتغلب على سوء التغذية والأوبئة، لكن جولته شملت جانباً خفياً تميز في سعي أجهزة الاستخبارات وتجار الأسلحة "الإسرائيليين" لفتح الأبواب أمامها في أفريقيا.
وفي حال نجاح تجار الأسلحة في إبرام الصفقات، فسيتم رفع حجم الصادرات "الإسرائيلية" للدول الأفريقية بمليار دولار سنوياً، إضافة لحجم الصادرات الحالي البالغ ثلاثة مليارات دولار، كما تشير التقديرات "الإسرائيلية" إلى أن حجم الصفقات الأمنية مع أفريقيا ستصل مليار دولار سنوياً.
جولة في النصف الجنوبي
منذ أن بدأت مواقف دول أمريكا الجنوبية تفترق عن السياسة الأمريكية، بعد صعود عدد من الأحزاب السياسية التي تختلف كلياً مع التوجهات الغربية، بدت "إسرائيل" متحمسة لتقوية علاقاتها مع دول النصف الجنوبي من القارة الأمريكية، لاسيما في وقت تعزز فيه الدول الإسلامية علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية.
وربما تتشابه أهداف "إسرائيل" المختلفة من الجولة الأخيرة لوزير الخارجية إلى دول البرازيل، الأرجنتين، بيرو، كولومبيا، مع باقي الجولات، حيث استمرت زيارته هناك عشرة أيام، ورافق الدبلوماسيين "الإسرائيليين" فيها مجموعة من رجال الأعمال من قطاعات التكنولوجيا، الاتصالات، الزراعة.
وكان من اللافت للنظر في الجولة اللاتينية "لليبرمان"، عدم وضع فنزويلا والإكوادور على جدول الزيارة، باعتبارهما من مناطق النفوذ الراسخة لإيران.
واستغل "ليبرمان" زيارته، للمشاركة في منتدى رجال أعمال، وتوقيع اتفاقات حول النقل الجوي، والالتقاء بالجالية اليهودية، وممثلين شبان لمختلف المجموعات اليهودية في أمريكا اللاتينية، وعائلات ضحايا عملية استهداف شركة التأمين اليهودية في العاصمة الأرجنتينية "بوينس ايريس"، الذي خلف 85 قتيلاً عام 1994.
وقد توقعت "إسرائيل" أن يكون هناك المزيد من الصفقات العسكرية مع دول أمريكا اللاتينية، بالرغم من الرغبة الحقيقية التي تعلنها بعضها بأنها تفضل ذلك مع العالمين العربي والإسلامي، وليس "إسرائيل" ، لاسيما بعد الحرب على غزة، وشيوع مظاهر العداء لتل أبيب.
علماً بأن "إسرائيل" استثمرت في الأشهر الأخيرة الكثير من الجهد للفوز ببعض الدول في المنطقة، حيث زار نائب وزير الأمن العام "إيزاك أهاروفيتش" بنما وكوستاريكا قبل بضعة أسابيع، فيما حضر نائب وزير الخارجية "دانى أيالون" الجمعية العامة لمنظمة الدول الأمريكية في هندوراس أوائل يونيو الماضي.
ويزداد التركيز "الإسرائيلي" هناك، في ظل نشاط إيران القوى، بعد أن بات الرئيس الإيراني "نجاد" حليفاً مقرباً لنظيره الفنزويلي "تشافيز"، ما دفع "أيالون" للقول أن "إسرائيل" تشعر بالقلق إزاء "اختراق" إيران لأمريكا اللاتينية، وهو ما كان فعلاً محل نقاش بين "ليبرمان" ونظرائه في المنطقة.
** "الحديقة الخلفية" السوفيتية
وطئت أقدام وزير الخارجية "الإسرائيلي"، ومن بعده رئيس الدولة "شمعون بيريس"، أراضي عدد من دول آسيا الوسطى، لاسيما بيلاروسيا، جورجيا، القوقاز، أذربيجان، كازاخستان، أوزباكستان.
وهنا يمكن الحديث عن التمدد "الإسرائيلي" في تلك المنطقة على النحو التالي:
التركيز على ملف التعاون العسكري التقني والاقتصادي بينهما، لاسيما في مجالات الطاقة والغاز والنفط، ويُلاحظ المراقبون نمو حجم التبادل التجاري بين "إسرائيل" وكل من أذربيجان وكازاخستان، علماً بأنها تغطي 40% من احتياجاتها النفطية والغازية منهما، كما تبدو مستفيدة من صادرات القمح من هذه الدول، والاستثمارات المشتركة في عدد من المشاريع الثنائية.
الدخول "الإسرائيلي" على "خط التنافس" الدائر بين روسيا والغرب لفرض السيطرة على تلك المنطقة، الغنية بثرواتها الباطنية وفي مقدمتها النفط والغاز، وتتمتع بأهمية جيو سياسية كبيرة.
رغبة تل أبيب بتوثيق العلاقات الدبلوماسية مع دول تلك المنطقة، حيث تم تغيير السفراء الإسرائيليين في عدد منها، والحرص على انتقاء سفراء يهود ذوي أصول فيها.
تفعيل التعاون العسكري بينهما، حيث حصلت أذربيجان العام الماضي على أسلحة وآليات عسكرية إسرائيلية، إضافة لبعض الأنظمة الصاروخية ونوعين من الطائرات بدون طيار، وشراء منظومة صواريخ.
وهكذا، فما تقدم من أهداف علنية وأخرى سرية، يشير إلى رغبة "إسرائيل" "الجامحة" بتوثيق العلاقات مع الجزء الأكبر، والأكثر أهمية اقتصادياً وعسكرياً من الجمهوريات السوفييتية السابقة، ولو أخذنا نتائج العلاقات "الإسرائيلية"-الجورجية، ودور تل أبيب الرئيسي في الحرب الجورجية على أوسيتيا الجنوبية، على روسيا بصورة غير مباشرة، سيتضح أن سياستها تسعى بكل ووضح إلى الحد من النفوذ الروسي في منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، والحصول على موطئ قدم قوي بالقرب من إيران والعالم العربي بشكل عام، ناهيك عن أن بناء علاقات مع هذا العدد الكبير الإضافي من الدول سيلعب بحد ذاته عنصراً دعائياً لصالحها.
??