مؤمن بسيسو
مع إطلال صباح الذكرى الثالثة والستين للنكبة -وكل صباح- ترنو الأفئدة الملتاعة المشتاقة نحو ديارها الأولى، وتستذكر أيام الصبا وزمن العيش الكريم تحت أفياء كروم البرتقال والزيتون، ويستبد بها الحنين أيما استبداد إلى الأرض العامرة بالخير والبركة والتي حوّلها الصهاينة إلى مستودع للشر والكراهية، ونهبوا خيراتها وثرواتها، وحاولوا تزييف تاريخها وحاضرها، وما زالوا يمارسون التضييق والملاحقة والإذلال المنهجي لمن بقي من أهلها.
ذكرى النكبة تكتسب هذا العام بعدا خاصا وقيمة مميزة؛ فالحالة الفلسطينية الراهنة لم تعد الحالة القديمة، والحالة العربية الراهنة لم تعد الحالة نفسها، والأمور بدأت تشق طريقها نحو التغيير الإيجابي على مختلف الأصعدة والمستويات.
البشريات تتوالى تتْرى.. وكل الوقائع والمؤشرات تؤكد أن حق العودة بات اليوم أقرب من أي وقت مضى؛ فقد تجاوزنا الشوط الأبعد من المعاناة والألم والصعاب، ولم يتبق إلا القليل، أو ما يطلق عليه الربع الأخير من الساعة في إطار معركتنا المستمرة والمحتدمة مع الاحتلال.
حديث الأعوام والسنين ليس ذا قيمة كبرى في عمر وحسابات الشعوب المكافحة والتي تكافح من أجل التحرر والاستقلال وتنافح ذودا عن أرضها؛ فالعبرة لا تكمن في طول الزمن بقدر ما هي في مواصلة العمل والكفاح ودوام المقاومة والنضال، واستئناف كل أنواع الضغط لمحاصرة واستنزاف الاحتلال وصولا إلى زمن الحسم المرتقب الذي سنجتث فيه الكيان الصهيوني من جذوره الهشة؛ ليصبح أثرا بعد عين تحقيقا لوعد الله تعالى.
القضية الفلسطينية -وفي القلب منها حق العودة- باتت حاضرة في تفاصيل وثنايا الثورات العربية التي ستقلب موازين المنطقة والعالم، وعلى رأسها الثورة المصرية الكبرى، ويكفي "إسرائيل" قلقا ورعبا أن الصوت الفلسطيني لم يعد وحيدا في ساحة المعركة، وأن الجماهير العربية قد دخلت بقوة على خط معادلة الصراع، ولن تنثني عن اندفاعتها القوية أو ينطفئ وهج انطلاقتها الوثابة إلا بعد أن يعود الحق إلى أهله الشرعيين والمشردين من أرضهم وديارهم.
المصالحة الداخلية التي نعمنا بالتوقيع عليها مؤخرا تشكل أرض الانطلاق نحو تحقيق الحقوق والثوابت الوطنية، والخطوة الأولى في سياق ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي بغية توحيد الجهد الوطني الجمعي باتجاه مواجهة الاحتلال ومخططاته العنصرية وإرهابه البشع الذي استثمر الانقسام لطمس قضيتنا العادلة ودحْر أهدافنا الوطنية.
لذا، يشرع لنا اليوم أن نبسط أشرعة التفاؤل والاستبشار بقرب انهيار منظومة الاحتلال ومشروعه الاستيطاني الإحلالي على أرضنا، وأن نبشر اللاجئين المشردين بأن لوحة القهر التي رُسمت بدمائهم وعرقهم ودموعهم طيلة العقود السوداء الماضية سوف تُنقش على صفحاتها الناصعة معالم جديدة تؤذن –حتما- بالفجر الجديد والفرج القريب.
اليوم، لا خشية من ضياع حق العودة ما دامت أفئدة اللاجئين المثقلة بالهموم والأحزان والذكريات تحلم بالعودة والخلاص، وخاصة أولئك الذين عايشوا المرحلة بكل تفاصيلها وشهدوا النكبة من الألف إلى الياء، وما دام الكبار يورثون الأمل والأمانة للصغار، ويرضعونهم لبان حب الوطن، ويقصّون عليهم حكايات المجد الغابر والزمن التليد.
اليوم أثبت الواقع أنه لا مجال أمام طمس وإلغاء حلم وحق العودة بجرة قلم كما توهم ذلك البعض، وأن طيّ صفحة العودة لملايين اللاجئين عبر وثائق العار أمر قد ولى تماما، وبات وراء ظهور أبناء شعبنا الذين هبوا على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم يوم أمس هبة رجل واحد في غزة والضفة والجولان وجنوب لبنان، واقتحموا الحدود المصطنعة والأسوار الزائلة، لتسيل دماؤهم على ثرى ترابنا الغالي؛ وليؤكدوا للعالم كله أن ساعة الخلاص باتت أقرب مما يتصور كثيرون، ولكي يشعلوا شرارة الانتفاضة الثالثة التي ستضرب أسس الاحتلال وقواعده، وتزلزل أركانه وبنيانه، وتدشّن مرحلة الأمل الواعد والنصر القادم بإذن الله.
لقد انطلق شعبنا نحو استعادة أرضه السليبة وحقوقه المغتصبة، وعلى "إسرائيل" أن تعيد حساباتها جيدا، وتبدأ العد العكسي لاحتلالها الغاشم لأرضنا ومقدساتنا.. وما ذلك على الله بعزيز..