كتب: يوسف ضمرة
في صباح الثامن من يوليو/ تموز لعام 1972، انفجرت سيارة مفخخة في بيروت، لتتمزق جثة غسان كنفاني الرجل الذي عاش ومات حارسا للحلم الفلسطيني، ولا يزال النقاد والدارسون والمبدعون والمؤرخون يحاولون استخراج ما ألقى به في أعماله وفي دفتر حياته المليء بالكلمات والخطوط الغامضة، حيث تتكشف بين حين وآخر أبعاد جديدة لشخصيته، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي، أم على المستوى الإبداعي!
وأكتفي بالقول إن غسان كنفاني لم يقدم نفسه قديسا أو واعظاً دينيا أو أخلاقيا، بمقدار ما قدم نفسه شاهدا أمينا ومخلصا، لقضيته الإنسانية الكبرى فلسطين، وللقضايا الإنسانية الأخرى أيا كانت وأينما وجدت.
كما ظهر كنفاني كاشفا الجمرة الثورية من تحت رماد الزمان والوهن، وبالتالي فليس من الغريب أو المعيب أن يحب غسان كنفاني امرأة ما كسواه من الرجال، حتى ولو كان متزوجا.
إذاً، فقد عاش غسان كنفاني على جمر الحب والحلم، وهو ما منحه الشهادة الأولى في حياته! حبه فلسطين، وافتخاره بالانتماء إليها تاريخا وشعبا وقضية وطنية إنسانية، هو الذي منحه القدرة على اختزان هذا الحلم الكبير بفلسطين التي يريدها، لا على الطريقة الدونكيشوتية، بل على طريقة الثوار المؤمنين بقضاياهم، والفاعلين فيها.. أي أنه يمكن القول على طريقة غرامشي: كان غسان كنفاني مثقفا عضويا بامتياز!
وإذا ما تذكرنا بعض تفاصيل حياته، فلسوف نؤَمّن على مقولة غرامشي، حيث أدار غسان ظهره لحياة شخصية ذاتية كان يمكن لها أن تكون مغايرة تماما، من حيث الثراء المادي، والأمن الشخصي، وتحاشي تلك النهاية التراجيدية التي ميزت استشهاده.
ولكن غسان كنفاني، وفي خلال تفاصيل حياته اليومية، حتى من قبل أن يغادر الكويت ويستقر تماما في بيروت، كان يسير نحو هذه النهاية التراجيدية، ربما وهو واعٍ إلى حد كبير طبيعة هذه النهاية! ولعل رفضه الحماية الشخصية في تلك الفترة بناء على معلومات عن نشاط ملحوظ للموساد في بيروت، يؤكد ما ذهبنا إليه.
إن الكثير مما في حياة غسان وحبه وحلمه واستشهاده، يضعه جنبا إلى جنب مع أبطال الأمم، والتي غالبا ما تخلع على هؤلاء الأبطال ثوبا قدسيا، تتخلله خيوط الطقوس الأسطورية، وهو أمر طبيعي طالما كانت هذه الشخصيات حاملة صلبانها على أكتافها منذ اللحظة الأولى، صاعدة الجلجلة بإكليل الغار لا بإكليل الشوك!
ولا نحتاج لابتداع ملامح أسطورية في حياة غسان واستشهاده، حتى ولو جاءت ولادته بعد استشهاد الشيخ القسّام، وحتى لو تم تقطيع جسده وهو يضحك في صحبة ابنة شقيقته ذاهبا بها إلى عمله اليومي، وحتى وهو يتناول يوميا حقنة الأنسولين للسيطرة على مرض السكري، ليذكرنا بتشي غيفارا الذي قاد بعض المقاتلين في جبال سيرا مايسترا وهو يعاني مرض الربو المنهِك.
يكفي أن نقرأ قصص غسان كنفاني القصيرة، كي نكتشف مقدار الحب العظيم الذي كان يفيض منه نحو البشرية، ومقدار الأسى الذي كان يكابده أمام عذابات الناس البسطاء والمقهورين والمنفيين. ولا نظن أحدا ينسى قصته "موت سرير رقم 12" التي يتماهى فيها مع مريض عُماني، وكأني به يردد قول الشاعر: وكل غريب للغريب نسيبُ.
لقد كرس غسان جهوده وسخرها لأجل قضيته الإنسانية، من دون أن يتعامل مع الفلسطيني "كسوبر مان" مثلما درجت العادة عند سواه من الكتاب الفلسطينيين. فنرى بعض أبطاله في أوج ضعفهم الذي تعامل معه غسان كحق بشري لا جدال فيه. ونرى آخرين مهزومين أو باحثين عن الخلاص الفردي، ونرى بعضهم وهم يتحركون بفعل الخصاء!
نكتشف في غسان ذلك البعد المعرفي بجوهر الإنسان، وهو ما جنبه الاصطفاف في طابور التنميط الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، أثناء صعود المقاومة الفلسطينية المسلحة، بل نجد أكثر من ذلك، حيث لا يتناسى غسان تلك الهواجس الإنسانية التي تبدو صغيرة في مظهرها.
ولكنه يدرك مدى الأهمية التي تنطوي عليها، منطلقا كما يبدو من رؤية واضحة تؤشر إلى العمل والنضال من أجل تحرير الإنسان الفلسطيني من ذاته المثقلة بإرث جمعي أُسُّه القمع الاجتماعي والسياسي والاستبداد المتعدد الأبعاد، كالكبت الجنسي مثلا في روايته "ما تبقى لكم".
ولا بد من الإشارة هنا إلى تعدد اهتماماته الثقافية والمعرفية، حيث ساهم هذا التعدد في بلورة رؤية واضحة لا في ما يخص القضية الفلسطينية فقط، وإنما في كل ما يتعلق بالحياة ومفرداتها المتعددة. ومن هنا كان قادرا على الكتابة السياسية بشكل دوري، والكتابة النقدية الأدبية، والغوص في التراث الفلسطيني برؤية غير معنية بالتوثيق، بمقدار عنايتها بالحفر العميق في البحث في دينامية تشكل المجتمع الفلسطيني، والمؤثرات الخارجية والداخلية.. الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية التي ساهمت في تشكل هذا المجتمع.
ولعل هذه الاهتمامات المتعددة ساهمت في بلورة مشروعه الإبداعي الكبير، والذي وصل إلى ثلاثة مجلدات بين القصة والرواية والمسرحية وهو بعد في منتصف الثلاثينيات من عمره.
وعندما نقول ثلاثة مجلدات، فإننا لا نقصد الإشادة بالكمية الكبيرة هذه، طالما كان القراء كلهم يعرفون أن هذه الكتابات لم تكن مجرد تحريض أو دعاية أيديولوجية، بل انطوت على أبعاد جمالية كبرى، تجلت في ابتعاده عن التنميط الذي يصعب تجنبه في كثير من الحالات، وبخاصة حين تدور الكتابات كلها حول قضية واحدة.
ولا مبالغة في القول إن هذه هي إحدى مزاياه الإبداعية العظيمة، حيث استطاع العثور على النموذج الفني لا النمطي، وهو ما تؤكده ذاكرة القراء الذين لا يمكن أن ينسوا "أبو الخيزران" و"أم سعد" مثلا! في الوقت الذي لا يتذكرون أيا من شخصيات كتّاب آخرين تناولوا القضية ذاتها.
وإذا أردنا البحث عن مبررات لهذه الميزة الإبداعية، وغيرها من الميزات الأخرى، فإننا بالضرورة لن نذهب إلى ما هو أبعد من غسان ذاته، وفهمه للعملية الإبداعية. فهو المنفي من وطنه، والباحث عن مكان أليف يقيم فيه ويستوطنه في غربته المريرة، اكتشف هذا المكان في اللغة، فأقام فيها، وأصبحت بيته الذي يعتني به بكل حرص وعناية، وهو يعرف جيدا أن هذه العناية هي الوسيلة الوحيدة لإقامة آمنة.
والإقامة في اللغة لا تعني الاستغناء عن الوطن، بمقدار ما تعني وطنا موازيا قابلا للتحول إلى الوطن الأول.. الحلم القابل باللغة إلى التحقق.
ومن هنا فإن الكتابة عند غسان كنفاني لم تكن لتتناسى جمالياتها واحتياجات صاحبها، باعتبار الكتابة مشروعا شخصيا في المقام الأول، على رغم تحوّله إلى مشروع جمعي في التلقي.. أي أن غسان كنفاني لم يكتب انطلاقا من شعوره بوجوده كقيادي عليه واجب الفعل والتنوير، ولكنه كتب انطلاقا من تلمسه الدائم حاجته الإنسانية إلى تحقيق حلم شخصي مشروع، مرتبط بقضية كبرى، الأمر الذي جعل من غسان حارسا أمينا لحلم جماعي حينا، وموقظا الحلم حينا آخر!
وما ندركه الآن جيدا، هو أن غسان كنفاني بإقامته الحميمة في اللغة، تمكن من مواصلة القيام بدوره كحارس للحلم الفلسطيني، ولأحلام البشرية كلها، طالما بقي الكون يرزح تحت كل هذا الظلم والاستبداد، وطالما ظل على هذه الأرض أسى مقيم.