الرسالة نت - ميرفت عوف
ما زال كثير من الناس في المجتمع الفلسطيني يظلمون مريض "الصرع" ويعاملونه على أنه مجنون وعدواني, ويتجنبونه لاعتقادهم أن مرضه معد، وبعضهم يتعامل مع المريض كأن به مس من الجن، فيتوجهون به إلى "المشايخ" لعلاجه، والحقيقة أن المريض بالصرع بريء من تلك المعتقدات الخاطئة.
ولا تتوقف المعاناة هنا، فهي تبدأ من أهل المريض وذوي القربى فيخجلون من مجرد فتح ملف طبي له في وزارة الصحة، ويحاولون إخفاء مرضه عن الجميع وكأنه وصمة عار تلاحقهم, حتى الطبيب لا يجرؤ على نطق مصطلح "مريض بالصرع" أمام أهله لأنه قد يقابل على الأقل بدعاء "صرع يصرعك", ويستبدلها بالقول "ابنكم يعاني من "شحنات كهربائية زائدة في الدماغ".
التقديرات تشير الى أن نسبة المصابين بمرض الصرع في فلسطين ازدادت خلال العامين الماضيين بسبب اعتداءات الاحتلال وحوادث الطرق، إضافة لعامل الوارثة بسبب كثرة زواج الأقارب في المجتمع الفلسطيني.
والجدير ذكره انه يشفى من هذا المرض 80 % من المصابين ولا يمنع صاحبه من ممارسة حياته بصورة طبيعية.
انتصار على المرض
السيدة "بسمة"، من سكان وسط القطاع، عانت من مرض "الصرع" كثيرا، ووصمت به دائما، حتى أن الناس تلقبها بـ"ببنت الفلان إللي عندها صرع"، لكنها انتصرت على كل الآلام التي قد تلحق بمريض الصرع في المجتمع العربي.
كانت ذكية وتمتلك طموحا كبيرا مكنها من إكمال تعليمها الجامعي بتفوق، ثم تزوجت من رجل اقتنع تماما بها وكونت أسرة جميلة عندما أصبحت أما لخمسة أطفال: ثلاثة ذكور وابنتين.
وتقول بسمة: عندما كنت طفلة ساعدني أهلي على تخطي محنة المرض وجنبوني التصرفات السلبية التي تصدر من الناس تجاهي".
وتضيف: أكرمني الله بزوج واع تحدى رفض أهله لي، وكنت أتابع العلاج عند الطبيب المختص بالتعاون معه".
كان زوج بسمة وهو ابن عمها رائع الخلق ومدركا لطبيعة مرضها وبفضل تعامله الصحيح مع المرض قلت نوبات الصرع عند زوجته إلى مرة واحدة في العام.
أما "يامن" وهو طفل في العاشرة من عمره، ويقطن في منطقة قريبة من بحر غزة، فيعرف الجميع عنه أنه شديد الخوف من الأصوات القوية، ويروي لنا شقيقه بداية مرض الصرع مع يامن فقال أنه سمع ذات مرة إطلاق نار قريب من سكنه، فأصبحت نوبات التشنج تأتيه دائما.
يامن طالب هادئ ومتفوق في دراسته، إلا أن إهمال تناوله الدواء بانتظام، كما يقول شقيقه، زاد من حالات تشنجه.
في البداية كانت والدة يامن لا تعرف آلية التعامل معه لكنها سارعت إلى معرفة الإسعافات الأولية لمرضى الصرع واستشارت الأطباء، وعلّمت أشقاءه كيفية التعامل مع أخيهم المريض.
وكأية أسرة تقلق كثيرا على يامن، لكنهم متفائلون بأن مواصلة التعامل مع طبيب الأعصاب سيساعد ابنهم الصغير على الشفاء القريب، ورغم أن أم يامن واعية إلا أنها تخفي أمر علاجه عند طبيب أمراض عصبية ونفسية عن غالبية أقاربها.
بعد الزواج بأسبوع.. سحر!
لكن محمد -25 عاما- كانت التوقعات كلها تتجه نحو تعرضه لسحر قوي، فتشنجاته وإغماءاته بعد أسبوع واحد من زواجه كانت مفاجئة. عرضه ذووه على أكثر من عشرين شيخا بهدف العلاج لكن دون جدوى، أخيرا قرروا التوجه به إلى طبيب الأمراض العصبية والنفسية، هناك كشف تخطيط الدماغ والتحاليل الطبية عن إصابته بمرض الصرع.
كان هذا الشاب يعمل في دولة الامارات العربية ثم عاد لغزة بهدف الزواج، إلا أن اكتشاف مرضه منعه من العودة للإمارات لمواصلة عمله، ما أدى لتدهور وضعه الاقتصادي الأمر الذي زاد من أزمته النفسية لتتفاقم يوما بعد يوم.
ويقول محمد: فوجئت بهذا التشخيص، لكن الحمد لله أننا ذهبنا للمكان الصحيح في العلاج".
يحفظ هذا الشاب جميل أهله الذين ساعدوه كثيرا باللجوء إلى الطبيب وتحديه للظروف القاهرة التي تعرض لها حتى أنه قبل شهر فقط من كتابة هذا التحقيق حصل على عمل جديد وأصبحت نفسيته أفضل.
ويحاول محمد جاهدا أن يندمج مع المجتمع، كما كان سابقا، خاصة أنه يخفي حقيقة مرضه، أما زوجته فتدعمه كثيرا لتخطي الأزمة.
ما هو الصرع؟
د. مازن الهندي وهو من أشهر أطباء غزة في علاج الصرع يعرف هذا المرض: "هو عبارة عن نوبات متكررة من فقدان الوعي مصحوبة بتشنجات عصبية، وهناك أنواع كثيرة من الصرع منها الصرع الأكبر ويشكل من 50 – 60% بينما يشكل الصرع الأصغر النسبة الباقية وهي كبيرة أيضاً وتنتج عنه نوبات ولكن دون تشنجات عصبية".
أسباب مرض الصرع لا تقف عند رقم واحد، حيث يذكر د. الهندي لـ" الرسالة" أن الأمراض التي تصيب الدماغ مثل الجلطات أو النزيف أو الأورام أو ضمور الدماغ لدى الأطفال وكبار السن قد تسبب الصرع وهنا يسمى مرضا ثانويا.
ويقول: في حالات كثيرة قد يصاب الأشخاص بمرض الصرع بعد الارتجاج أو صدمات الدماغ بحادث طرق أو من خلال التعذيب في سجون الاحتلال.
ويخص الهندي بالذكر حوادث الطرق التي تسببها الدراجات النارية المنتشرة بغزة، مشيرا إلى أنها زادت من نسبة الإصابة بالمرض. ويضيف: "الاحتلال أيضا تسبب في زيادة نسبة الصرع بين الفلسطينيين بسبب تعمد ضربهم على رؤوسهم".
وتابع د. الهندي بأن الناس في السابق كانوا يعتبرون الصرع مسا من الجن ومعالجته تكون بالتوجه إلى شيخ معالج، بينما اليوم بدأت الصورة تتضح أكثر بإيجاد أكثر من جهاز لتخطيط الدماغ في قطاع غزة الذي يساعد على الكشف المبكر لمرض الصرع, وأجهزة التصوير الملون وجهاز الرنين المغناطيسي التي تساهم في تشخيص المرض, بالإضافة إلى التوعية والإرشاد سواء عبر العيادات الخاصة أو الحملات التوعوية التي تنظمها وتدعمها وزارة الصحة.
قناعات خاطئة
يتوفر دواء مريض الصرع في المستشفيات الحكومية وتلك التابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، وهو مجاني يحصل عليه بالتأمين الصحي، ورغم ذلك يمكن الحديث عن تقصير في التعامل مع مريض الصرع.
ويقول الهندي في هذا الصدد: في الحقيقة المؤسسات الصحية هنا لا تُعنى بما فيه الكفاية بمريض الصرع، فهو يحتاج لاهتمام أكبر وليس مجرد توفير الدواء، مشيرا إلى أنه بذل جهدا شخصيا لتحسين بعض ظروف مريض الصرع بتخصيص كل أيام الأسبوع لحصول المريض على دوائه بدلا من يومين أسبوعيا.
ويؤكد طبيب الأعصاب أن أخطر المشاكل التي يعاني منها مريض الصرع في قطاع غزة هي قناعات الناس تجاه المرضى، فهناك اعتقاد سائد أن المرض معد وأن المريض عدواني جدا ومجنون.
ويشير الهندي إلى أن هذا الاعتقاد أجبره في بداية عمله على عدم التجرؤ بإخبار أهالي المريض بحقيقة المرض والاستعاضة عنه بلفظ "شحنات كهربائية زائدة في الدماغ".
وأهم ما يقلق الأسرة التي يعاني أحد أفرادها من الصرع في قطاع غزة هو موضوع الزواج، وتزيد المعاناة تلك إذا كانت المريضة فتاة، ويقول الهندي في هذا الصدد: يعتقد الناس أنه من الصعب جدا زواج الانسان الذي يعاني من الصرع وهذا خاطئ، فلدي مريضة تدخلت شخصيا بموضوع زواجها وشرحت طبيعة هذا المرض، وهي الآن متزوجة وتعيش حياة سعيدة وأنجبت أربعة أطفال ويتابع زوجها حالتها لدي بانتظام".
ويوضح الهندي بان الأهالي يخجلون من فتح ملف طبي للمريض في وزارة الصحة، ويعتقدون أن ذلك وصمة سيئة ستظل تلاحقهم، لذلك يفضلون اللجوء إلى طبيب خاص مؤتمن على هذا السر من وجهة نظرهم، ويخفون ذلك عن الكثير من الأقارب".
ورغم ذلك يبشر الهندي بأن الناس في قطاع غزة لديهم دائما أمل بالشفاء وهم متفائلون، مؤكدا أن 80% من مرضى الصرع يمكن شفاؤهم.
لا توجد أرقام
لقد اجتهد الطبيب الهندي لإيجاد إحصائية لمرضى الصرع في قطاع غزة على الأقل، لكنه فشل في ذلك بسبب عدم تعاون المعنيين معه وسلوكيات الناس تجاه المرض، مقدرا عدد مرضى الصرع في قطاع غزة بأنه يفوق عشرة آلاف مريض.
بينما يؤكد أخصائي الأمراض النفسية والعصبية د. عائش سمور أن ملاحظات الأطباء النفسيين وأطباء الأعصاب في السنوات العشر الأخيرة تشير إلى أن عدد مرضى الصرع مقارنة بعدد السكان في فلسطين أعلى من السابق وتركزت الزيادة بوضوح بعد الحرب على غزة في ديسمبر 2009 وخاصة بين الأطفال.
يقول د. سمور :" على رغم من أن العامل الثقافي بدأ بالتوجه نحو العلاج والبعد لحد ما عن علاج التشجنات العصبية عند المشايخ لاحظنا بعد الحرب ازديادا في عدد المرضى، مؤكدا على الحاجة الماسة لدراسات دقيقة حول هذا المرض في فلسطين".
ويضيف: اتفقنا مع جامعة بريطانية على إجراء مثل تلك الدراسة وأبحاث مشتركة للوصول لقياس حقيقي وواقعي عن نسبة الصرع في القطاع بعد الحرب التي اندلعت في 27 ديسمبر 2009 .
ويلقي د. سمور اللوم على المؤسسات الصحية الدولية واتهمها بأنها مقصرة في رعاية مرضى الصرع، كما أن الحكومة الفلسطينية تتولى مسئولية الجميع وتتحمل كاهلا كبيرا.
ويقول :" على سبيل المثال تعاونت مع جمعية سويسرية في مشروع عيادة " السيرة " لعلاج مرض الصرع منذ عام 1982 وحتى 1990 ثم اعتذرت تلك الجمعية عن العمل بسبب الظروف الأمنية في قطاع غزة ، ولم يتواجد في القطاع جمعية غير حكومية بديلة عنها منذ أوقفت العمل في القطاع "، ويرجع د. سمور السبب في ذلك إلى حاجة تلك المؤسسات للإنفاق الدوائي ، ومشكلة المؤسسات غير الحكومية انها تعني بالمكاسب الربحية أكثر من المكاسب الخدماتية ، وما يهون الأمر في غزة أن الحكومة هي المسئولة عن التكاليف المادية لعلاج مرضي الصرع .
الوضع النفسي
رغم أن مرض الصرع مرض عضوي 100%، إلا أن الناس يعتقدون بأنه مرض نفسي له علاقة بالتراث والثقافة، فوفق الأخصائي النفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية د.سمير زقوت فان توارث الثقافات جعل الناس ينظرون إليه بأن له علاقة بالناحية النفسية أو الناحية الروحية أكثر من الناحية العضوية.
ويؤكد د. زقوت لـ"الرسالة نت" أن غالبية مرضى الصرع يعانون وضعا نفسيا صعبا، كما أن تناول الدواء المستمر له أثر نفسي وقد يتعرض المريض لكآبة فيرفض العلاج.
ويفرق د. زقوت بين مرض الصرع ومرض الهستيريا الذي يشبهه في بعض الأمور، ويوضح أن مريض الصرع يغيب عن الوعي تماماً لا يسمع ولا يرى ومن الممكن أن يؤذي نفسه أو يتبول على نفسه بينما مريض الهستيريا يقع أمام الناس ليجذب انتباههم ولا يمكن أن يؤذي نفسه وهو يسمع ويرى ما يدور حوله لكنه لا يستطيع الرد.
وهنا لابد من الجهات المختصة ان تجتهد أكثر في توعية الناس بمرض الصرع بشكل عام ، مع الاشارة الى ان الناس أصبحت تمتلك شيئا من هذا الوعي على عكس ما كان في السابق.