مؤمن بسيسو
طالت غيبة المصالحة وامتد أمد بعدها وملامستها للواقع الفلسطيني رغم ما قيل فيها، من جميع الأطراف، مدحا وغزلا وإطراءً.
منذ البداية، كنا ندرك أن المصالحة تشكل ورقة ضغط رابحة في يد البعض ليس إلا، ومجرد أداة لتحقيق أجندة معينة وأهداف خاصة لا تمت للمصلحة الوطنية بصلة.
يؤيد قولنا هذا ويصدّقه أن الرئيس "أبو مازن" اختزل مسار المصالحة في قضية تشكيل الحكومة التوافقية، ورهن اتفاق المصالحة برمته بشخص سلام فياض رغم معارضة حركة حماس وقطاعات واسعة من حركة فتح ومؤسساتها وفصائل أخرى لذلك، وها هو يرهن استئناف لقاءات المصالحة بمستقبل طلب الاعتراف بعضوية الدولة المودع في أدراج الأمم المتحدة.
المصالحة بمفهومها التقليدي الذي عهدناه لدى "أبو مازن" لا تعني سوى تشكيل حكومة وإجراء الانتخابات، فيما تعني المصالحة بمفهومها الوطني الشامل إعادة صياغة للواقع السياسي والأمني الفلسطيني، ورسم ملامح وأسس استراتيجية وطنية موحدة لإدارة الشأن الفلسطيني الداخلي كما إدارة المعركة مع الاحتلال.
لا يرغب "أبو مازن" في قطع خطوات حقيقية نحو إنفاذ ملف المصالحة، لأن الولوج إلى المفهوم الوطني للمصالحة يفضي إلى إسقاط كثير من الالتزامات السياسية والأمنية التي قيدت السلطة نفسها بها منذ تأسيسها، وهو ما يعني عمليا تغيير قواعد اللعبة مع النظام الإقليمي والدولي الذي سمح ورعا نشأة وتأسيس السلطة وحدد لها مساراتها ووظائفها، وهذا أمر دونه تغيير مقابل لقواعد اللعبة في التعامل مع السلطة وقياداتها أو لربما حلّ السلطة في أسوأ الخيارات والاحتمالات.
لأجل ذلك، سيبقى التنسيق الأمني قائما، ولن يتأثر برياح الوحدة والمصالحة والتوافق الوطني، وستبقى الأجهزة الأمنية تهيمن على شتى مناحي الفلسطينية، وستبقى منظمة التحرير، هيكلة وبرنامج، على المستوى الاستراتيجي بعيدا عن أي ممارسة جادة أو تغيير حقيقي.
المصالحة الحقيقية تنسف مفاهيم الارتهان السياسي والإملاء الأمني المعتمدة في إطار العلاقة بين السلطة والاحتلال، وما دام الأمر كذلك، وفي ظل انعدام أي تفكير حقيقي بخيار حل السلطة، فإن المصالحة المعروضة في بازار الواقع الحالي هي مصالحة مجزوءة، محدودة، ناقصة بكل المقاييس.
لا التقاء بين برنامجي: التسوية والمقاومة، ولا يمكن للمشروعين أن يتعايشا بشكل سلمي وحضاري في ظل احتفاظ كل منهما بأجندته الكاملة وعدم نزولهما أو قدرتهما على النزول على برنامج توافقي مشترك يحمي القضية الفلسطينية والساحة الفلسطينية والشعب الفلسطيني من أخطار وتحديات المرحلة القادمة.
لا يبدو "أبو مازن" في وارد الاستعداد لتقبّل برنامج "حل وسط" مع "حماس"، فهو مصرّ على خيار المفاوضات الأوحد، ولم تصدر عنه أي بادرة تجاه إمكانية مراجعة علاقاته الأمنية مع الاحتلال، ويمضي في كل خطواته ومشاريعه السياسية بشكل انفرادي دون استشارة أحد.
"الحل الوسط" الذي يمكن تقبّله وطنيا كقاسم مشترك بين برنامجي: التسوية والمقاومة، يقوم على أساس الشراكة السياسية وإعادة قولبة وصياغة النظام السياسي الفلسطيني، ووضع ضوابط صارمة وواضحة للتحرك السياسي والعلاقات السياسية مع الاحتلال والمحيط الخارجي، والتحلل، ولو تدريجيا، من العلاقة الأمنية المتجذرة مع الاحتلال، وإفساح المجال للحريات العامة والخاصة وتطبيق القانون في مناطق السلطة بدون تعديات أو استثناءات.
"أبو مازن" ليس سهلا كي "يتنازل" عن جزء من السلطة لحماس أو غيرها في إطار الشراكة الوطنية، وليس "ياسر عرفات" الذي حاول تغيير بعض قواعد اللعبة مع النظام الإقليمي والدولي فانتهى إلى الحصار والاغتيال، بل هو رجل ذو فكر سياسي معروف، ولا يفكر في قلب الطاولة في وجه أحد، ولا يرغب إلا في تغيير قواعد اللعبة التفاوضية فحسب دون أي شيء آخر.
وما دامت المصالحة تخضع للمشاريع والأجندة الخاصة، فإن الواقع الفلسطيني لن يتغير كثيرا بتطبيق مراحلها ومساراتها المختلفة، اللهم إذا خالف "أبو مازن" التوقعات، وانقلب على فكره ونهجه الحالي، وفتح صفحة بيضاء جديدة في حياتنا الوطنية الفلسطينية.