عبد الباري عطوان
اقتحم المستوطنون (الإسرائيليون) مسجداً في قرية طوبا زنجريا في منطقة الجلــــيل الفلسطينية المحتلة تحت جنح الليل وأشعلوا النيران فيه، وفي نسخ القرآن الكريم داخله، وكتبوا شعارات عنصرية معادية للعرب والمسلمين على جدرانه، يمنعــــنا الحياء والأدب من ذكرها، ولم نشهد تحركاً واحداً من المجتمع الدولي، والعالم الغربي الحر، الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الرئيس باراك حسين أوباما.
عندما هدد قس أمريكي مغمور في إحدى كنائس ميامي بحرق القرآن الكريم، في مظاهرة كراهية وحقد على كتاب سماوي ورمز عقيدة مليار ونصف مليار مسلم في العالم، تحركت الإدارة الأمريكية، وتحرك العالم الإسلامي غاضباً مستنكراً، وجرت عملية إجهاض لهذا العمل العنصري الحاقد، ولكن عندما يقدم المستوطنون (الإسرائيليون) على إحراق مسجد وعشرات من نسخ القرآن الكريم على رفوفه ويدنسون محرابه، فهذا أمر عادي مشروع، فـ(الإسرائيليون) فوق كل القوانين والشرائع، ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم، طالما أن أمريكا تحميهم، وبعض العرب يصمتون على جرائمهم.
لن ننخدع بإدانة بنيامين نتنياهو، ولا بدموع التماسيح التي يذرفها شمعون بيريس على هذه الجريمة، وعلى هذا الاستفزاز العنصري، فهؤلاء هم الذين شرعوا الاستيطان، وبنوا المستوطنات وصادروا الأرض، ونهبوا المياه والهواء ومارسوا كل أنواع الإذلال والكراهية ضد العرب والمسلمين.
نتنياهو عندما يتحدى العالم الإسلامي بأسره، ومن بعده المجتمع الدولي، واللجنة الرباعية التي تدعي تمثيله (المجتمع الدولي) ويعلن بناء أكثر من ألف وحدة سكنية جديدة في مستوطنة جيلو في قلب القدس المحتلة، فإنه يعطي الضوء الأخضر لهؤلاء المستوطنين ليعيثوا في الأرض فساداً، ويحرقوا بيوت الله، ويعتدوا على كل من يعترض طريقهم.
إنها "بروفة" لحرق المسجد الأقصى وبالون اختبار لقياس رد الفعل العربي والإسلامي.. اليوم مسجد في الجليل وغداً نفيق على أنباء إشعال النار في المسجد الأقصى، فماذا سيفعل العرب والمسلمون، وماذا سيفعل العالم الحر أو العالم المقيد، لا شيء على الإطلاق، مجرد إدانات غاضبة، وتشكيل لجان تحقيق تظهر نتائجها في القرن المقبل.
(الإسرائيليون) لا يريدون عرباً، مسلمين كانوا أو مسيحيين، على الأراضي المحتلة عام 1948، ويعكسون هذه الاستراتيجية بجلاء من خلال مطالبتهم العرب بالاعتراف بدولتهم دولة يهودية، أي أن تكون حقوق المواطنة فيها لليهود فقط، أما غيرهم من مسلمين ومسيحيين فهؤلاء أغراب، أشرار، يجب طردهم فوراً، فلا مكان لهم في الدولة العنصرية اليهودية. ومن المؤسف أن الرئيس الأمريكي أوباما الذي ذاق مرارة المعاناة من العنصرية البغيضة، وكان والده يجلس على المقاعد الخلفية المخصصة للسود في حافلات شيكاغو قبل خمسين عاماً، يؤيد هذه الدولة العنصرية، ويمارس ضغوطاً على السلطة الفلسطينية ورئيسها للتسليم بها كشرط لأي مفاوضات تقود إلى دولة فلسطينية هزيلة تكون وعاءً لاستيعاب الفلسطينيين المطرودين من هذه الدولة العنصرية.
المسألة ليست في حرق مسجد فقط، كبر حجمه أو صغر، وإنما إهانة مليار ونصف مليار مسلم، والتعدي على المقدسات، وممارسة أبشع أنواع الاستفزاز والتحدي، والتصرف بطريقة همجية غير إنسانية وغير أخلاقية، من قبل مواطني دولة تدعي إنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وشعبها هو شعب الله المختار.
شعب الله المختار لا يحرق مساجد الله، ولا يدنس بيوت عبادته، ولا يهين أهل الديانات السماوية الأخرى، وإنما من المفترض أن يقدم مثلاً ونموذجاً في التسامح، ولكن ما نراه حالياً مخالف لكل هذه القيم والمبادئ، بل متحد لها.
نعم لا ننكر أن هؤلاء أقلية، ولكنها أقلية تجسد عقلية تحكم المجتمع الإسرائيلي بأسره، وتفرض عليه عقيدتها المتطرفة، وتملي على الحكومة ما يجب أن تتبعه من سياسات استيطانية عنصرية، مثل خنق القدس المحتلة بحزام من المستوطنات، وتقويض أساسات المسجد الأقصى، وفرض الحصار النازي على قطاع غزة، وارتكاب مجزرة فوق سفن الحرية في عرض البحر المتوسط.
ندرك جيداً إننا كتبنا مثل هذا الكلام كثيراً في الماضي، فالاعتداءات على المقدسات العربية والإسلامية لم تتوقف على مدى ستين عاماً وأكثر، ألم يحرقوا المسجد الأقصى، ألم يقصفوا كنيسة القيامة (أو المهد) بالمدفعية أثناء حصار مدينة جنين، ألم يعتدوا على جنوب لبنان ويرتكبوا المجازر في قانا مرتين، وليس مرة واحدة، وهل نسينا قنابل الفوسفور الأبيض التي حرقت أجساد أطفال القطاع؟
علينا أن نتخيل، مجرد تخيل، لو أن الفلسطينيين أحرقوا كنيساً يهودياً في القدس المحتلة، أو في مستوطنة إسرائيلية، أو ارتكبوا مجزرة فيها مثل تلك التي ارتكبها المستوطن باروخ غولد شتاين في المسجد الإبراهيمي في مديــــنة خليل الرحمن، كيف سيكون رد فعل العالم المتحضر، والبيان الذي سيلقيه باراك أوباما، أو توني بلير مبعوث الرباعية وسفير نتنياهو لدى السلطة الفلسطينية؟
هذا الاستفزاز العنصري لن يتوقف، ولعله سيكون الشرارة التي ستفجر انتفاضة الكرامة الفلسطينية القادمة، فقد طفح الكيل فعلاً لا قولاً، ففي البدء كانت القدس وستظل.
صحيفة القدس العربي اللندنية