بقلم- د. صلاح سلطان
عشت ليلتين متواليتين إحداهما بالقاهرة وأخرى بغزة، لكن بينهما بعد المشرقين، ويبدو أن هذا البعد هو المسافة بين حكم العسكر المتغلب والمدني المنتخب.
وتبدأ القصة عندما ذهبت لميدان التحرير بوسط القاهرة، بعد عشاء يوم الأحد 23/12/1432هـ الموافق 20/11/201م، فوجدت أن الصوت الغالب ليس صوت مكبرات الصوت في المنصات كالعادة، لصوت الإسعاف، تسير بين الجموع بسرعة تهدد من لم تصبه رصاصات الأمن والشرطة العسكرية.
ودخلت في عباب الكتل البشرية والكل يقول "لا تدخل حيث لا أمان على أحد والضرب في المليان والجرحى بالمئات"، قلت: إن الكريم إذا دعي إلى طعنة أجاب، ولابد أن أبدأ بزيارة الجرحى في المستشفى الميداني؛ لأن العرب تقول "ليس راءٍ كمن سمع"، ودخلت فوجدت عربات الإسعاف تحمل شبابا في عمر الورد تسيل الدماء الزكية على وجوههم، أو أجسادهم كأنهم كانوا في معركة مع الصهاينة، وأتممت خطواتي المتثاقلة إلى المستشفى فسمعت صرخات وآهات من شباب وفتيات، هذا مصاب باختناق كامل، وذاك يرتعش من الصرع الذي سببته الغازات السامة، وليست فقط المسيلة للدموع، وهذه تقول لي "يا دكتور في رأسي 15 غرزة من ضرب الجنود على رأسي وجسدي"، وقالت "والله لوكنت حرامية –سارقة- أو من بنات الليل، ما فعلوا بي شيئا من ذلك، حيث كان يتناوب علي 4 من الجنود المصريين لا الصهاينة، ولا تكمل الحديث من رعشة الصرع التي تكاد أن تكون سمتا في الجميع.
ورأيت شبابا في رقابهم وصدورهم وأفخاذهم عددٌ من الرصاصات الحية، والأطباء الذين أحب أن أسميهم "ملايكة التحرير" يقومون بالخدمات بروح وهمة وحرص على إنقاذ المصابين بالجملة، لمواجهة ما أقوله للتاريخ "مذبحة 20 نوفمبر"، فكادت أن تنسينا موقعة الجمل بالتحرير، وكان من ثمراتها على الأقل أربعون قتيلا وألفان من الجرحى، يرشح بعضهم للموت لكثرة جراحاتهم عددا وعمقا، وحالة التوتر تسيطر على الميدان فالحوار صراخ، والوجوه واجمة، والنفوس وجلة، والكل حائر أمام سؤال وجيه: لمصلحة من؟ ومن وراءهم؟ وما أهدافهم؟ وهل هذه ردة للوراء وعودة لعصر حسني باسم حسين.
وظللت أبعث الأمل وأطالب ألا ينفرد أحد بقرار النزول للميدان ولا يذهب أحد للداخلية، ولابد من محاكمة كل متورط في الأحداث، سواء بالقرار الإيجابي بالضرب في الميدان، أو السلبي بترك الذئاب تنهش في لحم الشعب الثائر سلميا.
وعدت في السحر أدعو ربي أن يعصم مصرنا من مكر الخارج والداخل، والنوم طار من عيني رغم الإجهاد حيث كانت صرخات الجرحى تتردد في أعماقي، وصورة الشباب الذين ماتوا أمام عيني من الرصاص أو الاختناق، وجاء أذان الفجر ليجدد الأمل أن مصر في عين الله وسيحفظها من الماكرين، وتجهزت لرحلة جديدة لبلدي الآخر فلسطين وبلدتي العزيزة غزة رمز العزة حيث كنا في رابطة علماء أهل السنة " على موعد مع الحملة الأوربية لكسر الحصار، لبرلمانيين وناشطين من أربعين دولة من أوربا وأمريكا الجنوبية والباكستان وليبيا وتونس والمغرب و...
وخرجنا بعد الفجر ووصلنا لغزة، وسجدنا على ترابها شكرا لربنا، قبل مصافحة واحتضان أهلها، وجدت العين تفور بالحب غير العيون في الجنود المصريين، التي تتوقد نارا، رأيت بغزة الأنوار في الوجوه والأماكن، ووجدت بمصر النار تشتعل مع القنابل الأمريكية تحرق الأجساد.
رأيت في النفوس أمنا وأمانا، وكنت منذ أقل من 15 ساعة أرى قلقا ووجلا، وكل الشباب كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيرانا، ودخلت إلى أعماق غزة ولقينا العلماء، من الأساتذة والخطباء والدعاة يفعمون بالحب والود والتقدير، ويكادون يحملوننا على الأعناق، وكنت منذ ساعات أختنق من الغازات السامة في ميدان التحرير، ولم أعد أبصر، وترنحت وكدت أحمل على النقالة لولا تجلدي، ورغبتي أن أفرغ نقالة لغيري، وكان مسك الختام، وتمام النعمة أن ألقى زعيما جاء من رحم الانتخابات ويقال عنه رئيس وزراء الحكومة المقالة، وإنه القائد "إسماعيل هنية"، وتعجبت أن يكون المنتخب مقالا، والمتسلط جاثما معترفا بتسلطه على عباد الله تعالى.
لكن لقاءه مع هالة النور الرباني وابتسامته الصافية، ووداعته الآسرة، وأحضانه الدافئة، ومنطقه الدقيق، وتحليله العميق يجعلك تستكمل كل أسباب الأمان، وخرج بنا يقود السيارة بنفسه يتفقد القطاع، وقال بلسان الواثق: هنا أخي صلاح تمام الأمان تمشي بالليل والنهار في أمن تام، والجرائم عندنا قليلة بل نادرة، فتنفست نفسا عميقا وقلت: هذا هو الفرق بين أن تعيش تحت حكومة منتخبة وحكومة متسلطة، فقلت له: هل أقضي النهار حلا لمشكلة أمي مصر مع كل الفزع، وأبيت بغزة كي أنال قسطا من الأمان والراحة والاطمئنان، وأفقت وقلت آه من الحواجز والسدود بين غزة ومصر ستمنعني عند العودة من تكرار هذا الأمان، قال تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".