سليم سمير
أخذني إلى هنا حديثٌ أحادي الجانب مع رجلٍ أبيضَ الشعر مليء بالحكمة والذكريات.. حدثني عن بحر حيفا، وعن مِلحِه الذي يضيءُ في وُجوه الناس.. حدثني عن رائحة البرتقال القادم من الجنوب هاربا من فُلكِ يافا ومن مينائها.. لقد كانَ رجلا وقورَ المُحيا هادِئَ العينين.. لم يكُن في عينيه ما يثيرني حتى عَبَرت صورةُ البلادِ السليبة عليها، وحتَى عَبَرَت عيناي.. كَانَ يربط يديه بعضهما ببعض كالشاهد الذي يحتارُ في وصفِ جريمةٍ لم يستطع منعهَا.
اعتدل في جلسته ونصبَ عينيه اتجاه السقف حينَ بدأ يتحدث عن بيتِهم المطل على سوقِ الأبيض في حيفا، وأخذ يدور في تفاصيله، وما حوله، كأنه يراه.. أخذ في تأصيلِ الحجارة وتاريخِها كأنها من بعضِ أهله وذويه.
لقد كانَ هذا الرجل شابا في مثل عمري حين كانَت المدينةُ البهية تَعتد لمواجهةِ دورِها كأولِ القلاع، وكانَ -على غير ما أنا- أحدَ الذين نازعَ السلاحُ أرواحَهم وما يملكون.
كانت الحسرة التي سمعتها في صوتِه هي غيرُ تلكَ التي اعتدتُ عليها.. حسرةٌ أصابتها الخسارةُ القاسية، وأسدلت عليها الخيبة مراياها من كل جنب.
سقطَت حيفا في الثاني والعشرين من آذار، وكانت الإذن بما مُنيت بِهِ سائر البلاد، ومُنِيَ به تاريخنا.. كُنت دائما أنظرُ للصراع الذي نعيشه من منظور الحق والباطل.. كنتُ أشعر بالظلم دوما، وصرتُ الآنَ أشعر بالخسارة.. خسارة بلاديَ التي لا أعرفها.. بلادي التي أستحقُ أن أدور في وصفها، وأن ألفق الأكاذيبَ عن سحرها.. بلاديَ التي أستحقُ أن أسميها بلادي.
لستُ أنكِر أنني أعيش حياتِيَ اليومية سعيدا جدا في ملجأي بغزة، ففيها وُلدت، وفيها لا أشعرُ بالاغتراب، فجميعُ أهلها أهلي، ولون طينها يشبه وجهي، ولكنني أشعر بأنني منفصلٌ عن تاريخ المكان.. ذلكَ التاريخ الذي ترويه لأبنائك وأصدقائك عن بيتكَ القديم، وعن قصص العائلات التي كانت تسكن هذا الحي أو ذاك، هكذا، وللمرة الأولى أشعر بأنني لاجئ.. لاجئٌ تماما بما لا ينتقص المَعنى أنني لم أعِش يوما في مخيمٍ للاجئين، وكذلك لم يفعل أبي ولا حتى جدي.. هكذا أعودُ لأفرقَ بين صورةِ الصراع التي يراها جيل النكبة، وتلك التي صنعها جيلُ الثورة الأولى، وأنتظرُ قليلا حتى أرسُمَ الصورةَ التي يجب أن أراها أنا..