على جرادات
لم يعد الخلل في مسيرة برنامج منظمة التحرير الفلسطينية لتجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في دولة مستقلة وذات سيادة، خللاً كميّاً، بل بنيويّاً، ما يجعل إعادة بناء وتوحيد هذه المنظمة، وتفعيلها ودمقرطتها، حلقة مركزية، يشكل الإمساك بها، شرطاً للإمساك بباقي حلقات الشأن الفلسطيني، داخلياً وخارجياً.
ويعدّ توافق قيادة المنظمة وفصائلها مع قيادتي "حماس" و"الجهاد"، على تفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، الذي جرى الاتفاق على تشكيله في العام 2005، وعقد أول اجتماعاته مؤخراً في القاهرة، خطوة في الاتجاه الصحيح لمعالجة المأزق الفلسطيني الداخلي الذي لم يستطع، رغم ما أفضى إليه من مناخات التيئيس وفقدان الأمل والالتباس، المساس بجوهر الهوية الوطنية الفلسطينية التحررية وأهدافها العادلة.
لكن، وحتى تكون هذه الخطوة جادة، فإنه لا مناص من تعزيزها بخطوة الاتفاق على برنامج سياسي وطني، يتمخض عن مراجعة سياسية شاملة، لمسيرة المشروع الوطني لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وسيّدة، وهو المشروع الذي جاء امتداداً للتصدي الميداني العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، للغزوة الصهيونية، منذ نشأتها، حيث رفض الوعي الفكري والسياسي التحرري العربي، ومنه الفلسطيني، بمشاربه المتنوعة، الاعتراف بـ(إسرائيل) دولة، ونحت لها توصيف الكيان، كمصطلح سياسي غير موجود في القانون الدولي، تعبيراً عن رفضِ الاعتراف بشرعيتها، وتعبيراً عن اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية بمنزلة الكيان السياسي الوطني الفلسطيني المؤقت، والجهة الشرعية التي تناضل وتسعى، بدعم قومي عربي، وتحرري عالمي، لإقامة هذه الدولة المستقلة ذات السيادة التي تدرجت مسيرة برنامجها على النحو الآتي:
في أواخر ستينات القرن المنصرم، بلورت منظمة التحرير مضمون الدولة المبتغاة في مطالعة إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية على أنقاض (إسرائيل)، سياسياً وعسكرياً وثقافياً، يعيش فيها أتباع الأديان الثلاثة من الفلسطينيين، دون تمييز. في العام 1974، وفي مجلسها الوطني الثاني عشر، طرحت المنظمة "البرنامج المرحلي"، أو ما سميَ في حينه، "برنامج السلطة الوطنية"، أو "النقاط العشر"، الداعي إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض فلسطينية يتم تحريرها أو ينسحب عنها الاحتلال (الإسرائيلي)، توطئة لإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية على أنقاض (إسرائيل).
في 15-11-1988، وفي مجلسها الوطني الثامن عشر، أصدرت المنظمة، "إعلان الاستقلال"، الذي صارت الدولة الفلسطينية بموجبه، دولة مستقلة، لكن لا على أنقاض (إسرائيل)، بل إلى جانبها، وتعيش معها بسلام، إنما دون تحديد لحدودها.
في العام 1199- وافقت قيادة المنظمة على المشاركة في "مؤتمر مدريد للسلام"، بوفد من الأرض المحتلة العام 1967 تحت مظلة الوفد الأردني، ما قد يوحي بأنها لا تصرّ على الدولة المستقلة، وبأنها قد ترضى بالكنفيدرالية مع الأردن، كمشروع دعمته الولايات المتحدة.
بعد اتفاقية "أوسلو" العام 1993، امتزجت المنظمة بالحكم الذاتي، الذي وافقت على إقامته، وتسلمه، كخطوة أولى باتجاه، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة العام 1967، إلى جانب دولة (إسرائيل).
وعلى كل حال، يمكن تقسيم تعامل منظمة التحرير مع مفهوم الدولة الفلسطينية إلى أربع مراحل، وذلك تبعاً للفواعل التي أثرت في ذلك الوعي أو غيرت اتجاهه:
1: مرحلة الميثاق القومي الفلسطيني، (منذ تأسيسها العام 1964 وحتى حرب حزيران 1967)، حيث استولت (إسرائيل) على ما كان قد تبقى من أرض فلسطين. في هذه المرحلة رأت المنظمة، (بقيادة المرحوم الشقيري في حينه)، أن الضفة الغربية جزء من الأردن، رغم اعتبارها لنفسها المؤسسة الحافظة للكيانية الفلسطينية المستهدفة، لكي تحظى بقبول الأنظمة العربية، وخاصة الأردن.
2: مرحلة الميثاق الوطني الفلسطيني، (من حرب حزيران 1967 حتى حرب أكتوبر 1973)، حيث عَبَر جيشا مصر وسوريا خطوط "النكسة"، وهو العبور الذي دفع البعض إلى الاعتقاد أنه كافٍ لإحراز تسوية سياسية مع (إسرائيل)، وأنه أصبح بالإمكان تجاوز التعامل معها، وفقاً للاءات الثلاث، (لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات)، التي كان قد أطلقها مؤتمر القمة العربي الرابع في الخرطوم، في 1/9/1967. في هذه المرحلة لم ترَ المنظمة في الضفة الغربية جزءاً من الوطن الفلسطيني فقط، بل، ورأت أيضاً، أن اللاجئين الفلسطينيين في الأردن جزء من شعبها، وأنهم سيكونون، مع بقية اللاجئين، والفلسطينيين الباقين في أرضهم، بمن فيهم فلسطينيو الأراضي المحتلة العام 1948، مواطنين في الدولة الفلسطينية المبتغاة، والمراد إقامتها على أنقاض (إسرائيل).
3: مرحلة تجاهل الميثاق الوطني، (من حرب أكتوبر 1973 وحتى "مؤتمر مدريد للسلام" العام 1991، ثم "اتفاقية أوسلو" العام 1993)، حيث تواجهت، (بعد مصر)، بقية "دول الطوق"، (سوريا، الأردن، لبنان)، ومعها الفلسطينيون، مع (إسرائيل) على طاولة المفاوضات، وليس في ميادين المواجهة والقتال. في هذه المرحلة رأت المنظمة في فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948، مجرد عون لها لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967.
4: مرحلة إلغاء الميثاق الوطني، (من "اتفاقية أوسلو" العام 1993 وحتى الآن)، حيث التقت (إسرائيل) مع المنظمة في مفاوضات مباشرة برعاية أمريكية، بعد أن تبادلتا الاعتراف، وصار للمنظمة حكم ذاتي مقيد ومحدود في الضفة الغربية، (دون القدس)، وغزة. في هذه المرحلة، قبلت المنظمة بمبدأ تبادل الأراضي، لحل مشكلة التجمعات الاستيطانية الكبرى في الأراضي المحتلة العام 1967، بل، وقبلت بمبدأ تأجيل البت في قضية القدس والحدود والمستوطنات والمياه وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها.
هذه هي مسيرة منظمة التحرير لتجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير في دولة مستقلة وسيّدة، وهي المسيرة التي على الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، التصدي لمهمة مراجعتها، برنامجاً وممارسة.
صحيفة الخليج الإماراتية