بقلم: رشا فرحات
الورقة الأولى
يحمل أوراقه بين يديه، تلك هي شهادة التخرج، وتلك الأخرى، الملونة بلون أصفر كالح، شهادة في استخدام الكمبيوتر، أخذها قبل عشر سنوات أو أكثر من مركز يتيم، في جانب القرية اليتيمة التي يقطن فيها منذ فتحت عيناه على هواء فارغ من كل شيء، إلا صوت الأغنام الماشية في الشوارع الترابية المحفورة بعشوائية الفقر، المارقة بالقرب من نافذته. وتلك الموقعة بختم غريب الصورة، ورقة لخبرة اكتسبها من جمعية وحيدة لمساعدة المحتاجين في قريته، تتمركز في قلب أرض خضراء ملفحة بأشجار الزيتون والبرتقال.
يصف الورقة تلو الورقة، ويدسها في ذلك الكيس الأسود، يبتسم متذكراً كلمات أمه لطالما قالت له أمه بأن يغير هذا الكيس، ويبدله إلى لون أصفر، لعل ضوء اللون وإشراقه يغير من القدر هذه المرة، وتصبح تلك الوظيفة من نصيبه، سيسمع كلامها هذه المرة، يسحب كيساً أصفرا من جانب السرير، ويدس أوراقه في قلبه ويخرج إلى حيث تجلس أمه في ساحة الدار، يلقى نظرة خاطفة على ابتسامتها، تهمهم بتراتيل الأمهات كعادتها، لعلها تمده بشيء من البركة، يقفل الباب وراءه، ويخطو أولى خطواته في ذلك الطريق الترابي الرطب.
الورقة الثانية
يصعد إلى المركبة المؤدية إلى المدينة، ساعة كاملة، ستسيرها المركبة حتى تصل به إلى وزارة العمل، حيث الأمل، يتأرجح في نهاية الطريق، ويتراقص أمام عينيه، يلقي نظرة إلى الكيس الاصفر، الممدد بين يديه راجفاً، يا ليته لم يغير الكيس، يبتسم، فيلتفت إليه الجالسون في المقعد المجاور، فيشعر أنه بحاجة إلى الضحك، في كل مرة يعود خائباً، إنها المرة الخامسة هذا العام، التي يتقدم فيها إلى وظيفة كهذه، ولا تلوح في الأفق أية بادرة للتوظيف، يترحم على والده، ويبتسم، هو من أصر على دخوله كلية الهندسة، وما زال يذكر جلسته بين أصحابه في ديوان القرية، ويرص أمامهم علامات نبوغ ابنه الوحيد، ودرجاته التي حصل عليها مع نهاية السنة، ويصف لهم اجتهاده في الدراسة. أجل يتضح ذلك على سحنته اليوم، يمرر يده على شعره الممشط هكذا منذ عشر سنوات، على تلك الطريقة، ويرتب من ياقة قميصه المخطط، ويتذكر كلمات صديقيه له بالأمس، ونصيحتهما، بأن يبدأ بتغيير نمط لباسه، وقصة شعره، ليتماشى مع وظيفة في المدينة، المدينة تختلف عن القرية كثيراً، وأهم اختلاف بينهما هو اختلاف المظهر، رحم الله والده، لو تركه يفلح في أرضه، لكان ذلك أفضل من بيعها مقابل شهادة في الهندسة.
الورقة الثالثة
ينزل من العربة، أمام باب الوزارة، يركض مسرعاً، يلقي نظرة سريعة على كل الواقفين هنا، في ذات المكان، يفترشون أوراقهم، على قارعة الحلم المشترك بينه وبينهم، يقف وجلاً، يتفحص لباسهم بنظرة خاطفة خجلة، ينظر إلى حذاءه، وبزته القديمة البنية اللون، والتي لا تتماشى مع عمره، يتذكر صديقيه، وكأنهما يقرآن ما يدور على أرض الواقع، كم سنة مضت عليه، مع كومة من الكتب الهندسية يتكوم، ويقلبها ليل نهار، حتى تغيرت كل الصور، وصورته ما زالت تحتفظ بمكانتها، لا يرى أولئك تغيراً إلا في الصور، يحدث نفسه، وقد غالبه اليأس، يلج بخطوة وجلة مترددة إلى تلك المقابلة، وقد عزم أمره على أن تكون الأخيرة، فلن يتقدم لأي وظيفة بعد اليوم، يخرج بقدم تشبه تلك التي دخلت قبل ثوان، يركض إلى موقف السيارات مسرعاً، وكأنه يهرب من نظرات الواقفين هناك، ومن نظرات لجنة الامتحان، ومن أوراقه التي قلبوها بين أيدهم، ومن علاماته الكاملة، ومن شهادة الهندسة، تركض السيارة به مسرعة كما يريد، تدخل إلى ذلك الطريق الترابي، إلى حيث دعوات أمه المنتظرة. يدخل غرفته وجلاً، خائفاً، يائساً، خجلاً من بزته البنية، وقصة شعره القديمة، يلقي بنظرة سريعة على صورته في المرآة، يقفل الباب، يتمدد على سريره ملتحفاً بغطاء اليأس، وقبل أن يغفو، يسمع صوت الهاتف من بعيد، وفرحة أمه تتردد مع صدى لدعواتها.