أ. يوسف علي فرحات
28ذي الحجة 1430هـ -15/12/20009م
لقد ودعنا ًقبل أيام عاماً هجرياً واستقبلنا عاماً آخر ، وكلما قَلبنا النظر في هذا الحدث الجليل ، أعني هجرته r عدنا بالدروس والعبر التي ، لا غناء لنا عنها ، حيث إن فيها لنا عزاء وأي عزاء ، سيما لنا الشعب الفلسطيني ، فالهجرة فيها عزاء لكل مستوحش ، لكل ستضعف ، لكل مظلوم ، كيف لا وذلك ، إذا علمنا أن الهجرة كانت نصراً ، هكذا وصفها الله تعالى : (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ .....) [التوبة :40]
والهجرة لم تكن فراراً ، بل كانت انتصاراً ، لم تكن هرباً من الموت ، كلا ، فالمهاجرون الأوائل كانوا هم وَقود المعارك الكبرى التي دارت رحاها لهدم كل السلطات المستبدة ، عربية كانت أو غير عربية ، ولم يؤثر عن مهاجر أنه تردد في مواطن الموت لحظة .
إن روعة الهجرة تتجلى في أنها عقيدة وتضحية وفداء وكفاح ، وهذا الذي حمل الفاروق رضي الله عنه أن يُؤرخ للمسلمين بداية تاريخهم بهذا الحدث .
فالهجرة ، لم تكن مجرد رحلة أو سفرة من مكة إلى المدينة ، فكم في الدنيا من أسفار أطول أمداً وأبعد مشقة من هذا السفر القاصد ، بل قد حدث على عهد النبي r نفسه أن رجلاً كانت له في المدينة امرأة يتعشقها ، يهواها ، فلما رأى طريق الأبطال يزدحم بالفدائيين من حملة العقائد وهم يتركون البلد الذي اضهد فيه دينهم ، مشى العاشق الولهان بينهم يبغي المدينة كذلك معهم ! فَعلَق النبي r على هذا السفر ، كما عند البخاري من حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ) . وإذا أردنا أن نصفها بأنها رحلة ، فهي رحلة إنقاذ لهذا الدين .
فالهجرة هي فكرة أكثر منها وصفٌ لحدث بدأ برحلة مغادرة من مكة إلى المدينة ، لذلك وجدنا القرآن الكريم في آية واحدة فقط تحدث عن الهجرة كحدث ، وذلك في سورة التوبة وهي (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ ...) والتي نزلت في غزوة تبوك ، حيث أراد الله سبحانه أن يقول للمنافقين والقاعدين عن نصرته ، إذا لم تنصروه فإن الله غنيٌ عن نصرتكم ، إذ نصره يوم الهجرة ، حيث لم يكن معه أحد سوى صاحبه أبي بكر
فالهجرة هي عقيدة وتضحية وحب وفداء ، لذا وجدنا أن أكثر الآيات التي تحدثت عن الهجرة ، قرنت بينها وبين الجهاد (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [التوبة :20] وغيرها من الآيات .
إن الهجرة بحث وطلب للكرامة والعزة ، هي انخلاع من المجتمع الكافر المكي الذي يضطهد المستضعفين ويُصادر حرياتهم ، لإقامة المجتمع الإسلامي الآمن ، لأنه في مجتمع الكفر والظلم قد يفتن المرء في دينه ، لذا توعد الله الذين تخلفوا عن الهجرة في قوله تعالى :
( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ) [النساء :97] .
هذه هي الهجرة عقيدة ، فالعقيدة هي التي حَرَّكت هؤلاء لكي ينخلعوا من أموالهم وأوطانهم من أجل الدين ، وهي إذا هاجت في نفس صاحبها تُجشمه فوق طاقته ، لكن لا عن عناء وتعنيت وكراهيه ، بل عن طواعية وحب وسماحة .
إن العقيدة لا تنتصر في دنيا الناس إلا إذا انتصرت في قلوب أصحابها ، إذا انتصرت على المصالح والأهواء والرغبات والمنافع والأولاد والزوجات والمسكن (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) [التوبة :24]
فالعقيدة هي الباعث على كل التضحيات ، ومنها الهجرة ، والهجرة ليست تضحية يسيرة ، بل عظيمة ، بل هي أعظم من القتل في سبيل الله ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [الأنفال :30] فقد تَدَرج هنا من الأدنى إلى الأعلى ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) [النساء66 : ]
ومن أعجب ما روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري ، أنه لما نزلت هذه الآية ، قال نفرٌ من أصحاب رسول الله r : تالله لو فعل ربنا لفعلنا ، أي لو كتب علينا القتل لقتلنا أنفسنا ، فبلغ ذلك رسول الله r فقال : للأيمان أثبت في قلوب أصحابه من الجبال الرواسي .
التضحية والفداء من أبرز وأعظم دروس الهجرة ، فهذا علي رضي الله عنه ذلك الفتى اليافع يؤثر رسول الله على نفسه ، يقيه بنفسه ، فينام في فراشه ، في مغامرة ، لا يُعلم عقباها ، لذلك كان رضي الله عنه يقول :
وَقيت بنفسي خَير من وطأ الحَصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحِجر .
وهذا أبو بكر بلغ من تضحيته أن سخَّر كل ما يملك لهذه الرحلة ، وبلغ من حبه لرسول الله r أنه كان يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ، حتى لفت ذلك انتباه رسول الله r فقال يا رسول الله : اذكر الرَصَد فأمشي أمامك ، واذكر الطلب فأمشي خلفك ، حتى إذا وصلا الغار دخل قبل رسول الله r حتى يستبرأ له الغار ، فدخل فاستبرأه ، ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل وأبو بكر يقول له : " إن أُقتل فأنا رجل واحد من المسلمين ، وإن قتلتَ هلكت هذه الأمة " . فلما كانا في الغار ، ووصلت أقدام المشركين إلى فم الغار ، قال رضي الله عنه مشفقاً على حبيبه : " لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا " فقال r : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
إن هذا اليقين لم يكن وليد الساعة ، إنما استصحبه معه طوال إقامته في مكة ، فقد نزل في مكة قوله تعالى (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )[الصافات :171-173] . بل إن هذا اليقين والأمل بتمكينه تعالى لهذا الدين ظل يصاحبه هو في طريقه إلى المدينة فقد نزل عليه في الطريق قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) [القصص :85 ] وقوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ) [محمد :13] .
ولقد صدق الله وعده فَخطَّ لجبَّاري مكة مصارعهم الواحد بعد الآخر ، ومن بقي منهم حياً فقد بقي لِيُوقِعَ صك التسليم النهائي ، وليعيش في ظل العفو العام الذي أعلنه الرسول r بعد رجعة عزيزة ، تُذكر له آخر الدهر ، أنه كان عظيماً يوم أخرج ، عظيماً يوم عاد .