رشا فرحات
للعم جمال بيت صغير بجوار المستشفى الرئيسي في مدينتنا، شرفته تطل ،على حديقته الواسعة المليئة بأزهار الأوركيديا البيضاء، يصنع في منزله أرغفة محشوة بالجبن الغنمي الطازج، وينقلها الى غرفة ملاصقة لمنزله، وضع فيها بعضا من الكراسي الخشبية ، لتستقبل المارين الى باب المستشفى، يلبي لهم ما يطلبون، يبيعهم بعضاً من الوجع، ويشترون.
ويفترش أمام بيته بسطة مليئة بأنواع المشروبات وعلب الحلوى حيث يبتاعها الناس من أمام بيته ويحملونها لمرضاهم الملقحين على الأسرة البيضاء في المستشفى، يعرف العم جمال أروقة المستشفى كلها، ويحفظ تفاصيلها، ويعرف أوجاع المرضى، ويعد أناتهم المتطايرة من الشرفات المضيئة، ويدخل غرفة العمليات يومياً، حيث يستمتع الأطباء بشرب الشاي من يديه، ويناولونه بعضا من قروش يقتات بها الى جانب حكاياتهم التي يتسامر بها كل ليلة مع زوجته وأبنائه في بيته الضيق، حيث لا وجع هناك يذكر، ولا روائح تتطاير من زجاجات التخدير، وهو يعلم أيضا سر كل طبيب، ومدى تمكنه من عمله، ويعلم عدد الاخفاقات في تلك الغرفة، وصرخات المنتظرين على بابها ونحيبهم.
ويزوره الموت كل يوم، ليرتشف بعضا من شايه، ويلتقم بعضاً من لقيمات خبزه الطازج، قبل أن يزور الأروقة الزرقاء، ويكشف الأغطية عن أصحابها، ويعد الأرواح الى جانبه، يبتسم في وجهه كل صباح، ويدخل غرفة العمليات مع اولئك، ويراه العم جمال جيداً، ويضحك، ويتساءل عن تلك الروح التي سيصطحبها معه ويرحل، كثيرة هي الأرواح الصاعدة من هذا المبنى، يحلو لها الصعود ليلاً، في هدوء النوم، وغفلة العاشقين، وسكون الأحباب في أسرتهم، فيأتي ويخرج، يمسح دموعه بصمت، دون صرخات.
في ذلك اليوم، مر الموت من أمام بيت العم جمال، واصطحبه معه، واقتاد زوجته وابناءه خلفهم، فوقفوا خلف الباب، وعدوا الكراسي الخشبية في الممر الطويل، ورأت أعينهم العم جمال يتمدد على سرير تلك الغرف، ويغلق الباب، ويقتص اصدقاء الأمس بعضا من لحم ودم، فيدفعونه ثمناً لكأس الشاي، ولقمة الخبز، ولا يأخذ العم جمال الثمن وتدق الساعة دقاتها المرتفعة، تتوقف فجأة.