الرسالة نت-محمد بلّور
لازالت ذاكرة شهود الحرب على غزة طازجة بتفاصيلها المؤلمة وحكاياتها المأساوية .الدماء والأشلاء اختلطت بأكوام الدمار الهائلة , الناجون علّمهم القدر كيف تمارس إسرائيل لعبة الموت على المدنيين العزّل .
وتلقت المقرات الأمنية والشرطية في اليوم الأول للحرب معظم القذائف والصواريخ التي ألقتها الطائرات في دقيقتين فاستشهد منهم المئات.
"الرسالة نت" تروى شهادة بعض العاملين في الشرطة الذين نجوا من القصف وأصيبوا بصواريخ الطائرات الإسرائيلية .
الضربة الأولى
اخترقت أصوات الانفجارات الهائلة خطوات المقدم محمد عاشور مدير شرطة محافظة الوسطى وهو في طريقه لحضور اجتماع في مدينة عرفات للشرطة .يعود عاشور بالحديث عن يوم الحرب الأول فيقول:"كنت متجه لاجتماع مع مدير شرطة القطاع وعندما وصلت بوابة مدينة عرفات للشرطة بدأ القصف وهربنا ثم استشهد الكثير في قصف سريع ومفاجئ".
وأشار إلى أن رجال الشرطة بعد دقائق من القصف بدؤوا في تدارك الأمر والتعامل مع الموقف الصعب .وأوضح أن القصف على مدينة عرفات ومركز الجوازات استهدف في ذات الوقت العربات الشرطية الزرقاء ما دفعه للجوء إلى شجرة بعيدا عن منظور الطيران .
وأضاف أنه تمكن من استقلال حافلة مدنية نقلته لمقره بمركز "أبو مدين" في الوسطى المدمر بكامله والمنهار على 45 شهيدا.
في ذات الوقت كان الرائد نعيم الكرد يطير عدة أمتار في الهواء قبل أن يرتطم بالأرض مقابل مركز شرطة مدينة الزهراء .وأضاف الكرد:"كنت أباشر عملي في المكتب فقال احد العاملين هناك قصف بغزة فخرجنا مسرعين وعندما وصلنا البوابة وقفنا لثواني لنرى الدخان ثم وقع القصف علينا" .
ارتطم نعيم وزملائه بالجانب الآخر للطريق وسقطوا مصابين بينما أتى الصاروخ الثاني على بقية من كان يحاول الخروج فسقطوا شهداء قرب الجدار .أصيب الكرد بشظايا في جميع أنحاء جسده لكن بعضها اخترق ركبته وبطنه وقرب عموده الفقري .
ويضيف:"كان القصف كالإعصار وتطايرت الحجارة على بعد 200 متر وأصبح المركز دمار شامل لا يوجد به عمود واحد" .أما النقيب عبد الله عدوان مدير شرطة حفظ النظام والتدخل بالوسطى فكان برفقة خمسة آخرين بمكتبه لإتمام بعض المكاتبات ورسائل البريد .
يعود عدوان بالحديث عن اليوم الأول فيقول:"كنا بحالة إخلاء وعند القصف اعتقدنا أنه تفريغ للهواء ولما خرجنا رأينا الدخان فأدركنا أنه قصف فهربنا".
سقط الصاروخ الأول على مقره الدفاع المدني المجاور لهم وقبل الثاني هرعوا هاربين فسقط وهم قرب بوابة المقر فتناثرت الحجارة حولهم .
** أقسى اللحظات
تحجرت دمعتان في عيني المقدم محمد عاشور مدير شرطة محافظة الوسطى وهو يصل لحجرة الاستقبال بمستشفى الأقصى ليتأكد من نبأ استشهاد نائبه الرائد عماد أبو الحاج .وأضاف:"مهنيا بقيت شرطتنا متماسكة وتضاعف جهدها عن وقت السلم وواصلوا العمل ليل نهار ولم يتركوا فراغا لكني فقدت الرائد أبو الحاج" .ويصف نائبه بأنه لا يخشى في الله لومة لائم , دائم الصوم , يحضر الصلاة حين انطلاق الأذان ويتحلى بأخلاق وعطاء غير محدود .
أدار عاشور شرطة المحافظة فانتشر رجاله على مفترقات الطرق مضيفا:"لم يكن شيء واضح ومع ذلك أدرنا الأمر دون سيارات وعملنا في المحلات والأسواق كانت تجربة صعبة لكنها ناجحة".
وأشار إلى أن من أقسى المواقف كان ملاحقة مرتكبي المخالفات لعدم وجود مراكز توقيف أو ظروف طبيعية لحفظ الأمن .
ويصف الرائد نعيم الكرد أقسى لحظات الحرب وخاصة اليوم الأول هو تلقيه نبأ استشهاد مدير شرطة المعسكرات الوسطى عماد أبو الحاج .وأضاف:"عندما علمت باستشهاده لم أتمالك نفسي علاقتي معه تعود لأكثر من 15 عاما ورغم إصابتي صممت على مواصلة العمل ونزلت للشارع بإصابتي".
أما النقيب عبد الله عدوان فلا زال يذكر استشهاد أحد أفراد شرطته ويدعى جمال النوري والذي استشهد تحت أنقاض مقره .
وأضاف:"كان قد استل ليتوضأ ولم نلحظه وكان في الصلاة عندما وقع القصف وعثرنا عليه في ثاني يوم تحت الأنقاض وقد استشهد وهو يحاول الخروج من بيت الدرج" .
** تضارب الأنباء
لم تتمكن كل وسائل الإعلام من التعامل مع حجم العدوان في اليوم الأول للحرب المئات استشهدوا وأصيبوا وآخرون أصبحوا في عداد المفقودين .المقدم محمد عاشور شهد ساحة المعركة الأبرز في مدينة عرفات للشرطة ونجا بأعجوبة فأضاف:"كان ممكن أن أستشهد في مقر أبو مدين حيث استشهد 45 أو مع اللواء توفيق جبر حيث سقط المئات لكن الله ما أراد فنجوت ".
وطارت الأنباء باستشهاد المقدم محمد عاشور فنعاه خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس وذكرت مقتله القناة العبرية في أخبار الحادية عشرة ولم يصدق أحد نجاته حتى شاهدوه بينهم .
كما جاءت الأنباء باستشهاد الرائد نعيم الكرد مدير شرطة الزهراء بعد قصف مقره وبقي مصيره مجهولا وسط حالة التصعيد غير المسبوقة وقد فقد 15 شهيدا و6 مصابين من رجاله .
أما النقيب عبد الله عدوان فكان كبقية ضباط الشرطة يحاول لملة جراحه وتفعيل خطة الطوارئ التي حان دورها بعد بدء الحرب .
** تجربة الحرب
ويبدي المقدم عاشور إعجابه بقيادة الشرطة وحركة حماس التي أصرت على تحدي العدو وتمكنت من حفظ الأمن في ظل الحرب.
وأضاف:"قرار الجميع كان إما النصر وإما الشهادة وأن المتخاذلين من عصابات رام الله لن يمروا إلا على أجسادنا فلا عودة للفلتان" .
وحول تجربته الشخصية في الحرب أشار أن ميدان العمل قد لا يمهل أحد لتنفيذ ما خططه يوما على الورق مع أهمية توقع الأسوأ دائما.
وفقد المقدم عاشور خلال الحرب 65 شهيدا معظمهم في مركز شرطة المعسكرات "مركز أبو مدين" من مدراء مختلف الأقسام .
أما الرائد نعيم الكرد فنزل بعد إصابته بأيام للعمل في الشارع متكئا على عكازه مضيفا:"توقعت بعد القصف اجتياح شامل وتمنيت ألا تفارقني البندقية لأستشهد" .
وأكد أنه عايش أفراد الشرطة طوال الحرب وقد عملوا بجد واجتهاد وضربوا على يد العابثين وخيارهم إما النصر أو الشهادة .
وبعد انتهاء الحرب يرى الكرد أنه وكافة زملائه لازالوا مصرين على العمل وإمضاء مشروعهم المقاوم وأنه شخصيا مستعد للتضحية بأبنائه في سبيل الله .
وأضاف:"تجربة الحرب علمتني أن أظل على استعداد وألا أثق بوعود دول عربية ولا أجنبية مع اتخاذ أسباب الحيطة والحذر" .
يرى النقيب عبد الله عدوان أن حالة التصعيد ستقع في أي لحظة مضيفا:"العدو لم يركن يوما والحاقدين كثر والشرطة بحاجة لجهد وعمل" .
وأضاف عدوان:"الحرب كان تجربة ممتازة فعملنا بجد وسيطرنا على المنفلتين والسرقات والتجاوزات وفقدنا أعزاء ورأينا أحياء تخرج من بين الأنقاض ولدينا الآن خطة طوارئ جاهزة" .
وسقطت إحدى القذائف جوار منزل عدوان ولم تنفجر وقد اضطر لإخلاء منزله أسوة ببقية ضباط الشرطة الذين استهدفهم الاحتلال .
واليوم بعد عام من الحرب على غزة تتماثل غزة من جراح الحرب السابقة وهي تتجهز لاستقبال حصار مشدد وضربة متوقعة .