كثيرٌ هم الذين فرضوا حضورهم على المشهد الإسلامي والسياسي في قطاع غزة، ولكنّ القليل منهم الذين احتضنهم الناس وأحبوهم، وانشرحت لهم الصدور، ولم تبخل ألسنة العامة والخاصة بالدعاء لهم والثناء عليهم.
كان أبو حسن شمعة (رحمه الله) واحداً من بين هذا القليل، الذي إذا نظرت إليه راح خيالك إلى ذلك الجيل من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لتجد نفسك وكأنك أمام واحدٍ من بين أولئك العظماء، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. كان أبا الحسن سمحاً في كل معاملاته وصاحب لمسة حانية مملؤة بمشاعر أبوية صادقة مثل رفيق دربه الشيخ أحمد ياسين؛ إمام شهداء فلسطين، الظاهرة المعجزة وأسطورة التحدي، عاشا معاً حيناً من الدهر كانا فيه الثنائي الذي يعاظم من كسب هذه الحركة، ويعزز من قيادتها للشارع، ليس في غزة وحدها بل في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر.
قد تعجز الكلمات في هذه العجالة أن تسطر تاريخ مجد تليد اسهم في صناعته شيخنا الحبيب وفقيدنا الغالي محمد حسن شمعة (رحمه الله)، ولكنها نبضات من القلب وعفو الخاطر لرجل جمعتني به صحبة طويلة، ومواقف ما زالت حيّة في ذاكرتي، وكأن وقائعها هي حدث اليوم وواقعه.
إن هناك في قطاع غزة عدداً من الرجال هم بمثابة أركان هذه الحركة المباركة وعماد استقرارها، وبهم يتنامى كسبها على مستوى الساحات والجماهير، والشيخ أبا حسن شمعة هو واحد من بين هذه القلة، التي تحظى بلقب الأب القائد الذي يمنحك بسعة صدره الجُرأة والاطمئنان لتشكوا إليه ما ألمّ بك من هموم أو ما لحق بالصف من تراجع وفتور.
كثيرةٌ هي المرات التي ذهبت إليه ناشداً أن أسمع منه الرأي واستوضح الموقف، وأضع على مسامعه ضغوطات واقع العمل في الحركة والحكومة، حيث إن الأمور فيما بعد الأحداث الدامية في يونيه 2007 لم تكن تبعث على الاطمئنان، وهي تسير في طريقٍ حال سالكيه في ساحتنا الفلسطينية كمن يمشي مكباً على وجهه ... وبنبرته التي ما عرفت عنها إلا الصدق وأمانة النُصح كان يخفف من أحزاني ويردني إلى ما يبعث الأمل من جديد، كان الرجل كما قال عنه الأخ إسماعيل هنية، رئيس الوزراء: "ياقوتة الإخوان".
كان أبو الحسن إخواني أصيل، من ذلك الطراز الذي عزَّ مثيله في هذه الأيام التي انفتحت فيها الدنيا على كثير من الشباب الإسلامي، فتكاثر اللاهثون خلفها وعزّت القدوات، فلا تجد قلوباً حانية على ذلك المستوى الرسالي لأولئك القادة الشهداء تحمل الهمّ وتعيش أوجاع الناس، بل حناجر تردح بلعاعات تمنحها هيبة كاذبة أو مكانة لا تستحق.
رحمك الله يا أبا الحسن، رحلة طويلة من العمر جمعتنا فيها ذكريات لا تموت، لأن فيها الكثير من الشواهد والمواعظ والأثر.
في بداية الثمانينيات، شددنا الرحال - معاً - إلى الأمارات العربية المتحدة لنعمل في الدورة الصيفية لتحفيظ القرآن الكريم، والتي كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) يرعاها بأفضل الميزانيات، للنهوض بأطفال الأمارات وشبابها.
سافرنا للإمارات أنا والشيخ (أبو الحسن) وعدد من الأخوة الأفاضل من قطاع غزة، وجمعتنا شقة واحدة مع مجموعة من الإخوان جاءوا من العراق وسوريا ومصر، لنعيش داخل هذه الشقة أجمل وأحلى وأكرم وأطيب ثلاث شهور، نتذاكر ونتفاكر أمر دعوتنا وديننا وحركتنا، وكان شهر رمضان واحداً من بين تلك الشهور الثلاث، حيث وضعنا برنامجاً تقاسمنا فيه العمل، كلٌّ بحسب مهاراته، فكان نصيبي - لخبرتي في طهي الطعام - القيام بإعداد وجبة الإفطار مرتين في الأسبوع، وكان شريكي في هذه المهمة الأخ (أبو الحسن)، حيث كانت له لمسات ونكهة مميزة في شأن بعض الأطباق الفلسطينية الشهيرة كالمقلوبة والفتّة، أما أنا فكنت أشاركه في التحضير والإعداد، إضافة لتجهيز الشراب الذي كان (ماركة مسجلة) بامتياز لي... لقد اخترعت شراباً لا يُكلف كثيراً، حيث كنّا نجمع التمر من أشجار النخيل المتناثرة بكثرة على جانبي الطريق، ثم نضعه في الخلاط مع اللبن أو الحليب ليخرج منه أشهى شراب نكسر به صيامنا.
لقد كان فقيدنا خفيف الظل ولديه روح الدعابة والأدب، والتي تجعل من يجالسه يعي بأنه أمام رجل صاحب بصر وبصيرة، بشوش يحب الناس؛ يألفهم ويألفونه.
عشق إخواننا العراقيون المقلوبة الفلسطينية، واتحفونا ببعض أطباقهم المميزة كذلك، وظلت ذكريات تلك الأيام باقية بيننا.
بعد انتهاء الدورة، عرض علينا الأخوة في الأمارات البقاء والعمل في العديد من الوظائف المتاحة في بعض الوزارات؛ كالتعليم والعمل والأوقاف، والتي تتناسب مع مؤهلاتنا العلمية والأدبية، اخترت أنا وبعض من جاء معنا من غزة الاستمرار هناك، أما الأخ (أبو الحسن) فقرر العودة إلى غزة، ليبقى إلى جانب الشيخ أحمد ياسين يرعى معه هذه الدعوة ويعاظم من كسبها.
لم تنقطع زياراتي للأخ (أبو الحسن) في أي مرة غبت فيها عن الوطن ثم عدت إليه، كان دائماً محطتي الأولى لمعرفة واقع الحركة وأحوال الوطن مع الاحتلال.
** دار الأرقم: الصرح الأشم
لا شك أن الأستاذ (أبو الحسن) قد أعطى لمدارس دار الأرقم جلّ وقته، وأخذت منه الكثير من تفكيره وانشغالاته، فهي مشروع تعليمي رائد يستحق أن يمنحه المرء عمره، وأن يعطي له زهرة شبابه وشيبته، وهو التزام كبير كان على كاهله؛ فدار الأرقم وديعة الشيخ الشهيد أحمد ياسين ومشروعه لإعداد جيل رباني فريد.. لقد أدركت منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماي أرض المدرسة، وشاهدت التميز والنظام الذي تحظى به، كم هو حجم العبء والمسئولية الملقاة على عاتقه، لذلك حثثت كل من أعرف من أهل الخير ومؤسساتهم الإغاثية أن يقدموا الدعم له لإعادة ما تهدم من بنيانه، جراء الغارات الإسرائيلية على المدرسة قبل العدوان الموسع في ديسمبر 2008 وبعده، مثل: مؤسسة الإغاثة التركية (IHH) ومؤسسة قطر الخيرية، وأيضا مؤسسة نخلستان وأصدقاء الاقصى من جنوب أفريقيا.
وتشهد له مخيمات "تاج الوقار" تخرج الألاف من حفظة القرآن الكريم من تلاميذ دار الأرقم. لقد كان باب الشيخ يطرقه الفقراء وأصحاب الحاجات، وكان كالشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) لا يرد أحداً، ولكن إذا لم تتوفر المساعدة حينها وعده خيراً وأجاب.
لقد استعان الأخ محمد حسن شمعة بجيل الرواد من إخوانه، ليحملوا معه أثقال وتبعات هذا المشروع العظيم.. وأتذكر يوم جاء بالمهندس ماجد سالم جابر - العائد من الامارات - ليكون مديراً للمدرسة، فقلت له: لقد أحسنت الاختيار يا أبا الحسن، إذ استأجرت القوي الأمين.
لقد رعى شيخنا الأمانة، وحافظ على التزامه التطوعي بالنهوض بالمدرسة، وتكفل بتوفير الميزانية المطلوبة لاستمرارها كمشروع إسلامي أشاد به الجميع، حتى التلفزة الغربية قامت بإعداد تقارير تشهد بتميز المدارس التي ترعاها الحركة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص مدارس دار الأرقم. وبالرغم من ضعف حالته الصحية التي توجب عليه المكوث في بيته، إلا أنه ظل على التزامه بالسهر على متابعة يوميات المدرسة وشئونها حتى الرمق الأخير من عمره.. وفي يوم الثلاثاء الموافق 5 يونيه 2011، وبينما كان يتحدث لإدارة المدرسة وأساتذتها - في جلسة كانت أشبه بجلسة وداع لتسليم الأمانة لهم - سقط مغشياً عليه، وتمَّ نقله إلى مستشفى الشفاء بغزة، حيث أدركته المنية صباح يوم الجمعة؛ أي بعد ثلاثة أيام من فقدانه لوعيه، وتمت الصلاة عليه في المسجد العمري الكبير، حيث أبَّنه الكثير من إخوانه ورفقاء دربه، وأخضلت لحى الكثيرين من دموع سكبتها عيون كل من عرفوه وعايشوه.
لقد روت لي زوجتي التي كانت إحدى طالباته في مدرسة المأمونية الإعدادية في أوائل السبعينيات، أنه كان دائماً يحرص على حثِّ الطالبات على الصلاة ولبس الحجاب، وكان جاداً في عمله، ويتعامل مع الطلاب ليس كأستاذ ولكن كأبٍ يحنوا على الجميع.
** أحداث يونيه الدامية: شهادة للتاريخ
قبل وفاته بأسبوعين، زرته في بيته مع الأخ النائب سيد أبو مسامح، وسألته عن روايته للأحداث الدامية التي وقعت في يونيه 2007، وقلت له: يا أخي يا أبا الحسن.. أنا رجل صاحب قلم، وسأكتب يوماً ما شهادتي للتاريخ، لأنني كنت مشاركاً أو متابعاً للكثير من اللقاءات والجلسات التي تعقدها جهات الوساطة واللجان الأمنية لفض النزاعات التي لم تتوقف بين فتح وحماس.. أريد أن أسمع روايتك، باعتبار مكانتك في قيادة الحركة، واضطلاعك على كل التفاصيل. سرد الرجل (رحمه الله) لنا روايته، والتي أكدت لي ما كنت أقوله وأدافع فيه عن حركة حماس، وهو أن الأمور لم يكن مخططاً لها بالشكل الذي تدحرجت إليه. لقد استدعت فاجعة حماس باغتيال الشيخ محمد الرفاتي (رحمه الله) إمام مسجد العباس بتاريخ 10 يونيه 2007، على أيدي بعض العناصر الأمنية من حركة فتح، أن يكون هناك ردٌّ يردع القتلة وجهات التحريض على مثل هذه الأفعال الشنيعة، فكان ما كان، ووقع بعد أربعة أيام؛ أي في 14 يونيه، ما لم يكن في الحسبان.
** وختاماً: باقون على العهد
في كل لقاءاتي معه كنت أشعر أنني أجلس مع صحابي جليل، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه..
واليوم، كلما تذكرتك يا أبا الحسن، تذكرت كل ما هو جميل في حركتنا، فأنت عنوان الخير وبوصلته.. "افتقدناك يا أبا الحسن.. ووالله لقد شعرت بعدك - حقاً - باليُتم التنظيمي.. نعم؛ هناك في العائلة الاخوانية الكثير من الأعمام والأخوال، ولكني حقيقةً فقدت الوالد الحنون".
وكلما التفتُّ حولي - ونحن نودع متوفى أو شهيد - وجدت أضرحة للشهداء من إخواني الذين جمعتني بهم ذكريات لا تُنسى، واليوم، عزَّ يا أبا الحسن أن تجد مقاماً في التضحية والفداء والصحبة والولاء والمروءة والوفاء بمثل تلك القامات التي سبقتنا بالشهادة والايمان.
رحمك الله يا أبا الحسن رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.