استخدم “يوسي بيلين”، مهندس أوسلو من الطرف الصهيوني (يقابله محمود عباس من الطرف الفلسطيني) مصطلح “ورقة التوت” وفي وصف السلطة الفلسطينية، وذلك تعقيبا على أسئلة بخصوص دعوته لحلها، هي التي تستر برأيه عورة الاحتلال.
لا خلاف على أن بيلين لا ينطلق في دعوته لحل السلطة من منطلق الحرص على الفلسطينيين، وإنما من منطلق الحرص على المشروع الصهيوني وفق الرؤية التي يتبناها، والتي تقوم على تجسيد حل الدولتين الذي يشكل من وجهة النظر الفلسطينية شطبا للقضية على أساس قبول دولة على أقل من خمس المساحة التاريخية لفلسطين مع ترتيبات أمنية تضرب سيادتها، وترتيبات أخرى تتعلق بالقدس الشرقية تنسف فكرة السيادة الفلسطينية عليها. ومن أراد التعرف أكثر على الدولة الفلسطينية التي يعد بها بيلين الفلسطينيين فما عليه سوى العودة إلى مفاوضات كامب ديفيد صيف العام 2000، فضلا عن وثيقة جنيف وملحقها الأمني التي صاغها مع صديقه (ياسر عبد ربه) بمشاركة حشد من القادة الأمنيين والسياسيين من الجانبين الفلسطيني والصهيوني.
نقول ذلك حتى لا ينظر البعض إلى استشهادنا ببيلين بوصفه استشهادا بعدو ينبغي مخالفته، لاسيما أنه يستند إلى نظرية مفادها أن نتنياهو بسياساته الرعناء إنما يخاطر بمصالح الدولة العبرية أكثر من المحافظة عليها، وهو رأي يشاركه فيه قطاع لا بأس به من الساسة الصهاينة ممن يرون أن على رأس القيادة الفلسطينية أناس لا يمكن توفير مثلهم في أية مرحلة من المراحل من حيث قابليتهم لتقديم التنازلات، الأمر الذي تأكد على نحو مفضوح في وثائق التفاوض الشهيرة التي أقروا بها بعد مرحلة عابرة من الإنكار.
في مسيرتها السياسية الحالية تكرس قيادة السلطة من حيث تعلن أو لا تعلن (الأرجح أنها تدرك ذلك) فكرة شارون التي انسحب على أساسها من قطاع غزة، وخلاصتها تمدد السلطة التدريجي الى نحو يستعيد وضعها الذي كانت عليه عشية اندلاع انتفاضة الأقصى، وصولا إلى دولة مؤقتة أو سلطة أو كيان على ما يتركه الجدار الأمني من الضفة الغربية (أقل من النصف)، الأمر الذي يستمر لسنوات طويلة يمكن لقيادة السلطة خلالها مواصلة الحديث عن الدولة بالمواصفات التقليدية إياها حتى لا تتهم بالتنازل عن الثوابت، فيما يجري تكريس تلك الدولة على نحو لا رجعة عنه مع تطبيع الشارع الفلسطيني والمحيط العربي على تقبل الوضع الجديد.
بعد ذلك إما أن يقبلوا من خلال التفاوض بالحل النهائي وفق المواصفات الإسرائيلية التي عرضت في كامب ديفيد (عام 2000)، وربما أسوأ من ذلك كما تعكس وثيقة جنيف، وإما أن يتحول المؤقت إلى دائم بمرور الوقت مع بعض التحسينات الطفيفة.
يقول القوم إنهم يرفضون ذلك كله، وأنهم متمسكون بالثوابت، وهنا ينهض السؤال التقليدي الذي طرحناه ألف مرة دون أن نجد عليه جوابا، وهو كيف سيتمكن من عجزوا عن إقناع نتنياهو بوقف الاستيطان من أجل استئناف التفاوض، كيف سيتمكنون من فرض الحل الذي يرونه، بينما يرفضون الانتفاضة الشعبية بمعناها الحقيقي، كما يرفضون المقاومة المسلحة؟!
ليس ثمة جواب هنا، وإذا تفذلك القوم وحاولوا الإجابة سيتحدثون عن الضغط الدولي والذهاب للأمم المتحدة من أجل دولة بصفة مراقب بعد الفشل في الحصول على اعتراف بالدولة الكاملة، مع أن حدوث ذلك لا يغير في حقيقة أن النزاع سيبقى مجرد نزاع حدودي بين دولتين بصرف النظر عن التفاصيل.
هنا سيردد علينا أعضاء القبيلة الفتحاوية (من بين قادة وكوادر فتح من يدركون عمق المأزق الحالي من دون شك)، سيرددون علينا معزوفة التقليدية في هجاء حماس، لكأننا ننتصر لرؤيتها بالحق والباطل، ما يدفعنا إلى التذكير بموقفنا الرافض لمشاركة حماس في انتخابات سلطة أوسلو رغم كونه اجتهادا سياسيا لم يكن ينطوي على نوايا تغيير البرنامج (تأكد لاحقا أن الجمع بين السلطة و المقاومة أمر مستحيل)، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى حشر الحركة في قمقم القطاع (شبه المحرر) بعد الحسم العسكري، فيما لا تملك الحركة من أجل استعادة المسار الصحيح سوى البحث عن مصالحة مع نهج ترفضه على أمل أن يؤدي ذلك إلى تصحيح مسار القضية من خلال الجماهير، بخاصة بعد الربيع العربي الذي يبشر بوضع عربي مختلف يكفُّ عن منح سياج الحماية للكيان الصهيوني. وهي كما يعرف الجميع مصالحة لم يكن لها أن تمر بسهولة (داخل حماس)، لأن من سيطروا على القطاع لا يتصورون عودته من جديد إلى حضن برنامج (دايتون- بلير) الذي يعرف الجميع تفاصيله ومآلاته.
هكذا تُحشر القضية بين مأزق حماس الناتج عن المشاركة في سلطة أوسلو، وبين رؤية بائسة يمثلها الطرف الآخر (فتح)، فيما يرتاح الصهاينة لهذا الوضع أيما ارتياح، ما يعني أننا سنظل في انتظار الانتفاضة الشعبية التي تنسف هذه المعادلة برمتها، وهي الانتفاضة التي تعمل قيادة السلطة ومؤسسات الاحتلال بكل ما أوتيت من قوة لمنع اندلاعها، لكن إيماننا بعظمة الشعب الفلسطيني وانحياز الأمة لقضية فلسطين يجعلنا على يقين بأن اندلاعها مسألة وقت لا أكثر، وإن تعذر علينا الجزم بمداه.
يبقى القول إننا لا نعتبر حلَّ السلطة بالكامل خيارا وحيدا، حتى لا يسأل البعض عن مصير المؤسسات وإدارة الناس، إذ بالإمكان تحويلها إلى كيان إداري يترك شأن السياسة والمقاومة للقوى والفصائل، لكن حملة بطاقات “الفي آي بي” يرفضون ذلك، بل يعتبرون المطالبة بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال محض مزايدة فارغة!!