قائد الطوفان قائد الطوفان

شاهد على مأساة "غالية" و"العثامنة"

المسعف أبو سعدة يعيد شريط الذكريات من مجزرة لأخرى

غزة- لميس الهمص

في كل مجزرة أجساد مقطعة وأشلاء مبعثرة نساء يصرخن.. وأطفال في عمر الزهور اقتلعوا من أماكنهم وتناثرت أشلاؤهم ودماؤهم في كل مكان... يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه...في كل مرة لا تختلف بشاعة المنظر ولكن تزداد هولا وإيلاما.

القدر وضعه في طريق عدة مجازر كل منها تحكي قصة دموية تشهد على شراسة الاحتلال, مجزرة عائلة غالية ومجزرة العثمانة.. وآخرها تعرضه للإصابة واستشهاد زميله في الحرب الأخيرة على غزة.

المسعف خالد أبو سعدة كان أحد المسعفين في تلك المجازر شاهد ما لم يتوقع أن يراه في حياته وفقد النوم والراحة وتحولت المناظر إلى كوابيس تطارده...ليسرد الحكاية "للرسالة".

مناظر بشعة

"دموعي سبقتني وأنا أحاول أن أتماسك لأصل إليه"..."مناظر تبكي الحجر" جمل متقطعة وكلمات متناثرة حاول فيها المسعف خالد أبو سعدة أن يصف فيها مجزرة عائلة غالية.

منظر الطفل ذي الخمسة أشهر ملقى على الأرض بين كومة من الجثث فقدت معالمها عرف فيما بعد أنهن سبع نساء عندما اقترب من إحداهن فتحت عينيها"شعرت أنها تطلب مني المساعدة وحاولت أن أنقذها تركت الجميع ونقلتها إلى المستشفى ولكنها ..كانت قد فارقت الحياة".

"في تلك اللحظات اعتقدت أنني لن أرى أبشع من تلك المناظر ولكن عندما توجهت إلى بيت حانون عرفت أن لا حدود لبشاعة الاحتلال وفظاعة ما يقوم به".

لتكتمل فصول الجريمة

أبو سعدة عاد مرة أخرى ليستكمل فصول مأساته مع بشاعة الاحتلال " سمعنا في البداية صوت الانفجار وكنا في أربع سيارات إسعاف انتظرنا حتى جاءتنا إشارة بالتوجه إلى منزل عائلة العثمانة".

لم تكن الطريق سهلة وأبو سعدة مع زملائه يحاولون الوصول بسرعة لإنقاذ من يمكن إنقاذه فالشوارع كانت محطمة بفعل قوات الاحتلال التي لم يمض على خروجها من البلدة بضع ساعات.

في طريقه إلى المكان تلقى اتصالا من زميله الدكتور علي العثامنة وهو يصرخ مستنجدا "أسرعوا إلينا إخوتي على الأرض أشلاءً ".

ويقول أبو سعدة" عندما سمعت صوته لم أعرف كيف قدت السيارة فكان هدفي الوحيد أن أصل المنزل المنكوب.. رغم الطرقات المهدمة لم أشعر بالوقت"

وصية أم

يا ليتني لم أر ما رأيت مشاهد غالية لا تقارن ببشاعة ما قابلنا… أطفال بلا رؤوس نساء وأطفال تناثرت أشلاؤهم .. بركة الدم توسطت ركام المنزل" هكذا وصف أبو سعدة ما واجهه عند منزل العثامنة.

ولكن قسوة المناظر لم تنسه عمله فحمل في سيارته ستة من المصابين كان من بينهم طفل صغير لا يعرف أهله، وفور وصوله للمستشفى قابل امرأة مصابة ولم تنسها جروحها شديدة الخطورة أن تسأل عن وليدها لتقول بكلمات خرجت منها بصعوبة"احرصوا على طفلي".. قالتها وفارقت الحياة شهيدة.. فما كان من أبو سعدة إلا أن خرج من الغرفة باحثا عن الطفل الذي وجده هو الآخر قد لحق بأمه إلى دار العلى.

استهداف الأطقم

أما الحرب الأخيرة على غزة فقد وصفها أبو سعدة بالمجزرة التي محت كل السابق من ذاكرته لهولها وبشاعتها فقد استهدفت البشر والشجر والمسعفين وكل متحرك وساكن أصيب بها واستشهد زميلي أمام عينيه .

ويروي حادثة أصابته واستشهاد زميله فيقول : في اليوم الرابع من شهر يناير الماضي تلقينا اتصالا من منطقة بيت لاهيا من إحدى العائلات وأخذ يستنجد بنا طالبا الإسعاف فتوجهنا إلى المنزل المستهدف ونقلنا الاصابات للمستشفى ومن ثم عدنا للتأكد من خلو المنطقة من الإصابات .

أبو سعدة يتابع وكأن المشهد لازال أمامه: كنت بصحبة ثلاثة من المسعفين وفي طريق عودتي

تفاجأت بالمواطنين يصرخون طلبا للإسعاف وعند سؤالي عن مكان الإصابات عرفت أنهم في أحد الشوارع الفرعية بالقرب من الدوار الغربي في المنطقة.

هناك وجدت خمسة فتية ملقون على الأرض يعانون من إصابات في أطرافهم فقام المسعفون بحملهم للسيارة وما إن وصلوها حتى أصابتها قذيفة إصابة مباشرة واستقرت داخلها.

أبو سعده شعر حينها بدخان كثيف ودم ينزف من رأسه فأيقن حينها أنهم أصيبوا فنزل مسرعا من السيارة متعاليا على جراحه التي أصيب بها ليعرف مصير زملائه فذهل بمشهد زميله المسعف عرفة عبد الدائم وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة متلفظا بالشهادة .

أما المسعف الثالث فقد أصيب في قدميه وأخذ يزحف حتى اقترب من سيارة الإسعاف، وكان الاستشهاد هو مصير المصاب فبعد أن كانت إصابته في قدمه أصبح أشلاء وانفصل رأسه عن جسده.

ووصف أبو سعدة الحرب الأخيرة بأنها الأبشع منذ بدء عمله، فبالرغم من أن سيارة الإسعاف كانت تشعل أضواءها وكان من على متنها يلبسون الزي المخصص لهم إلى أنها استهدفت بشكل مباشر ومتعمد.

وأضاف بأن 90% من الحالات التي كان يأتي لإنقاذها تتحول بعد دقائق لشهداء نتيجة لإصابتهم بقذائف، كما كان هناك العديد من حالات بتر الساقين وإصابات في الرأس مشيرا إلى أنه حمل أكثر من خمسة عشر جثة بلا رأس ومبتورة الأطراف.

لا أنسى

بعد كل ما واجهه في عمله وقاساه من مناظر لا ترحم لم يعد أبو سعدة كما كان ولم يعد ينظر للحياة كما كان يفعل من قبل ، ويقول"لقد أصبحت ذا مزاج عصبي.. وأصبحت أفضل أن أبقى وحيدا حتى أنني كلما وضعت لقمة في فمي شعرت بغصة ومشاهد الشهداء تظهر أمامي كأن الحادثة لم يمض عليها سوى لحظات"..

في كل القوانين الدولية يمنع استهداف طواقم المسعفين وسياراتهم ولكن الاحتلال لا يعرف قانونا ولا يعرف المحرمات فأبو سعدة كما روى لنا لم يسلم من قذائف الاحتلال التي أصابته  وهو يؤدي عمله فسيارته شاهدة على جرم الاحتلال فما زالت تحمل آثار القصف.

ولكن كل ما رآه يعتبره مشجعا له للعمل " لا أنسى أني إنسان  ولكن عملي شيء مهم ولن أتركه مهما حصل فهناك دوما من ينتظرني لأن أنقذه".

خالد أبو سعدة لم يكن الوحيد الذي غطى تلك المجازر ولكن العالم كله شاهد بشاعة الاحتلال وعنجهيته التي تزداد يوما عن يوم ولكن من يتحرك؟!

 

البث المباشر