هي أرادت أن تنعش حياته قبل أن تفقد حياتها, هو لسع لسانه ذرات ملح ألما وأضرب شوقا من أجل تقبيل يديها.
هي كانت تناجيه ليلا ولم تغمض عينها ليلة الزيارة وهي تتخيل عناق الدموع, هو كان يدعو الله أن يطيل عمرها ليهنأ برؤيتها.
هي احتارت أمومتها أي هدية ستحمل له, أما هو فآخر ما تمناه أن يحتضنها بين ضلوعه بثوبها المطرز , وقبل أن يحتضنها هو ماتت هي.
حكاية (هي وهو) تحمل بين طياتها تفاصيل حلم لم يكتمل , عاشته المرحومة الحاجة عائشة اصليح وابنها الأسير يحيى بعد أن فارقت الحياة وهي في طريقها لزيارته في سجن نفحة الصحراوي بعد حرمان دام خمس سنوات .
اكتفت بشذاه ورحلت
من أمام الشاهد الوحيد على عذاباتها, لفظت الحاجة السبعينية عائشة أنفاسها الأخيرة عند خيمة الاعتصام لذوي الأسرى المنصوبة أمام الصليب الاحمر , وقبل أن تهنأ عيناها برؤية يحيى المحكوم عليه بالسجن 12 عاما , فارقت الحياة وكأنها اكتفت بشذاه الذي فاح مع أول نسمة هواء وصلت من نفحة .
محطتنا الأولى كانت لخيمة الاعتصام التي احتفظت بين جنباتها معاناة الحاجة عائشة وهي التي اعتادت أن تحتضن بين يديها المرتعشتين صورة ابنها (آخر العنقود) وتمسح عن وجهه وتردد :" يا رب ارزقني زيارته قبل ما أموت " .
(الرسالة نت ) تخيلت الحاجة وهي جالسة على مقعدها المعتاد داخل الخيمة, تطالب وتستفسر عن موعد الزيارة القادمة .. وبعد فترة من تخيلاتنا لصمود ام الاسير يحيى , استفقنا على صوت أحد الحراس بالمكان , فأيقنا بأنها كانت هنا وفي غمضة عين صارت هناك .
الناطق الرسمي للصليب الأحمر الدولي أيمن الشهابي أوضح بأن الحاجة عائشة (أم اسماعيل) توفيت فجر الاثنين الماضي بعد دقائق معدودة من دخولها الحافلة التي تقل الدفعة الثانية من ذوي أسرى قطاع غزة المقرر زيارتهم اليوم في سجون الاحتلال.
وقال (للرسالة نت):" الحاجة كانت في طريقها لزيارة ابنها الأسير يحي اصليح المعتقل منذ (5 سنوات) والمحكوم بالسجن (12 عاما).
وكانت سلطات الاحتلال قد وافقت على استئناف زيارة أسرى قطاع غزة بعد الإضراب الذي خاضه الأسرى في شهر نيسان الماضي، الذي استمر 28 يومًا وانتهى باتفاق الكرامة برعاية مصرية.
أغدا ألقاك؟؟
هنأ قلب الأم لدى سماعها بخبر الزيارات , بعد أن كان المذياع هو المؤنس الوحيد والمفرح لنبضات فؤادها حينما تسمع انباء طيبة عن ابنها الأسير , وليلة الاثنين توجهت ام عيسى الى خزانتها لتجهز ثوبها المطرز الذي سترتديه فجرا كما طلب يحيى منها في آخر رسالة وصلت منه , وجهزت لزوجها العباءة الخاصة بالمناسبات , وقلبها يدعو الله بأن يتم فرحتها على خير , وتتساءل بلهفة أغدا ألقاك يا يحيى ؟؟
(الرسالة نت) وصلت منطقة (معن) بخانيونس لتقديم واجب العزاء لعائلة اصليح بفقيدتها , بحثنا عن الحاج أبو اسماعيل زوج المرحومة ووالد الأسير لننقل أساه على من فقد من الأحبة.
الابن الأوسط عيسى استقبلنا بوجهه الشاحب وكأن صدمته من الحادث أعاقت حديثه لنا , وكان شقيق الأسير آخر من شاهد والدته قبل صعودها للحافلة التي ستنقلهم الى مقر الصليب وبعدها الى سجن نفحة , وقال :"لم تغب الابتسامة عن وجه أمي (...) بعد أن لوحت بيدها لي قالت :"راح نوصل سلاماتكم ليحيى يمه ".
وكان آخر ما قامت به الأم أن خبأت في صدرها نقودا لتشتري ليحيى هدية قبل دخولها للسجن بعد أن منعت مصلحة السجن جلب الاهالي لأبنائهم هدايا او لوازم خاصة .
أما الطفلة حلا _ ثلاث سنوات_ وهي آخر من غنى ورقص مع جدتها ابتهاجا ليلة زيارة عمها الأسير , لم تصبح الجدة بالنسبة لها جزءا من الماضي فهي مازالت تنتظرها بشوق كما ودعتها به , فهي التي ذهبت لجلب (الشوكولاته) من عمها الأسير وستعود يوما.
غادرنا منزل الفقيدة الذي أصبحت جدرانه كمعرض صور لمن فقد من ام وابنها الأسير المغيب خلف قضبان القهر .
وبسبب تأخر الحاج أبو عيسى في صلاة الظهر ورغبتنا في لقائه , اتجهت (الرسالة نت) نحو مسجد الجهاد بخانيونس الذي صلي فيه الحاج الثمانيني صلاة الظهر , للوهلة الأولى بان والد الاسير وزوج الفقيد متماسكا خلال حديثه وكأنه جمل المحامل , الا أن دموعه خانته وذرفت لتعلن حجم المرارة والاسى الذي يسكن قلبه المنفطر لغياب الاحبة .
وقال :" آخر كلماتي لأم عيسى :"شدي حيلك .. ساعات قليلة وبنحضن يحيى (...) كانت خايفة تموت قبل ما تزور يحيى ولكن قدر الله غالب".
(من بئر السبع.. لمحة قبل مواراة الثرى).. هو عنوان لحكاية خديجة وآمنة اصليح بنات المرحومة عائشة واللتين وصلتا من بئر السبع في اللحظات الاخيرة لرؤية والدتيهما المتوفاة .
خديجة والمقيمة في السبع المحتل منذ 17 عاما كانت تستعد لرؤية والديها عند شقيقها الأسير في يوم الاثنين الماضي ولكنها وجهتها تغيرت فوصلت غزة لتلمح والدتها وقد فارقت الحياة .
الابنة خديجة كانت بمثابة حلقة الوصل بين ذويها وشقيقها الأسير يحيى لأنها تحظى بزيارته كل 15 يوما .
رسالة من نفحة
من المعلوم بأننا عندما نحب شخصا فأقصى ما نتمناه هو الرحيل عن هذا العالم قبله , لأنه ان رحل قبلنا رحلنا معه ونحن أحياء , الأسير يحيى يعيش وضعا مؤلما هذه الايام وخصوصا بأنه كان ينتظر لقاء أمه بفارغ الصبر , تألم شوقا حينما علم بأن الفقيدة كانت تدخر من مالها الخاص لتجهز له قبل خروجه من الأسر بيته الذي سيسكنه مع عروسه التي ستختارها له يوما, يواسيه زملاؤه داخل نفحة بفتح بيت عزاء لتبريد نار قلبه .
وأوضح وزير شئون الأسرى والمحررين عطا الله أبو السبح بأن وفاة الحاجة عائشة اصليح – والدة الأسير يحيى - هو دليل جديد على المعاناة التي يعانيها أهالي الاسرى نتيجة حرمانهم طوال أكثر مما يزيد عن ست سنوات من زيارة أبنائهم داخل السجون.
وشدد أبو السبح في بيان صحفي أن إدارة مصلحة السجون تصر على وضع العراقيل والعقبات والحجج لعدم السماح لزيارة أهالي الأسرى ابنائهم , مطالبا بضرورة التحرك الفوري والعاجل من جميع الجهات القانونية والدولية ومنظمة الصليب الأحمر للضغط على الاحتلال .
هي الاصفاد التي قيدت حركته ومنعته من احتضان والدته قبل رحيلها , وكما عاشت (هي) مع الصور , حكم عليه الجلاد أن يعيش (هو) الآخر معها بقية عمره خارج الأسر .