أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
يقول الناس إنك خنت عهدي
ولم تحفظ هواي ولم تصني..
كلمات كتبها الشاعر العربي عبد الله الفيصل وصدحت بها حنجرة كوكب الشرق أم كلثوم ورددها مئات الملايين من العرب وغير العرب من عشاق الكلمة الراقية الهادفة.
قد يسأل البعض: لماذا هذه الأبيات من هذه القصيدة وفي هذا الوقت؟.. أسئلة مشروعة من حق من يقرأ ما أكتب أن يسأل.
أقول إن البيت الأول يذكرني بمقولة ديكارت (أنا أشك، فأنا موجود)، والشك هنا هو شك اليقين وليس شك النكران والتشكيك، وكل منا لديه أفكار ومعتقدات وانتماءات هي جزء من تركيبته الشخصية والنفسية والثقافية انتمى إليها عن قناعة وحب ورغبة، ومؤمن بالأسس والمبادئ التي تسير عليها منظومته الفكرية والسياسية، وعندما يشعر بشيء من الاغتراب يبدأ في الشك ويعرض ما يجري على ما آمن من أفكار واتبع من طرق، ويقارن ثم يسأل: هل ما تزال تلك الأسس قائمة أم إن هناك انحرافا؟، وبإمعان العقل وإجراء الفحص والقياس السليم يصل عبر الشك إلى اليقين الذي يؤمن به.
عندما انتمينا إلى جماعة الإخوان المسلمون وحركة حماس انتمينا إليها وقد بلغنا الرشد وقطعنا شوطا من العمر ولم يكن هذا الانتماء من فراغ أو نتيجة التجربة والخطأ، فقد نشأنا في بيت متواضع مسلم متمسك بإسلامه محافظا على قيمه وكنا منتمين إليه دون تنظيم أو حركة لأنها الفطرة والإسلام دين الفطرة، وفي الجامعة كنا الأقرب إلى الجماعة الإسلامية وأكثر احتكاكا بها من غيرها من الجماعات بين الطلاب سواء الفلسطينيين أم المصريين لكن دون الانتماء التنظيمي,
وعدنا إلى غزة وكانت الأوضاع في حالة تغيير داخل المجتمع الفلسطيني والتيار الإسلامي آخذ في الاتساع، وشهدت فترة الثمانينيات بعض التوترات بين القوى والتيارات الفلسطينية.. في تلك المرحلة لم يرق لي بعض هذه الخلافات وتحديدا بين الإخوان وبين الجهاد الإسلامي وتمنيت أن تنتهي هذه الخلافات لأن المشروع الإسلامي واحد ويجب أن يتحد الذين ينتمون إليه لا أن يختلفوا.. هذا حديث كنت أحدث به نفسي كثيرا، ولم يكن في ذلك الوقت أي انتماء لي لأي تنظيم فلسطيني سوى أنني أنتمي للفكر الإسلامي.
لست هنا بصدد استعرض تاريخي ولن أدخل أكثر في التفاصيل لأن المقام لا يتسع للسرد والاستفاضة في الشرح، فنعود إلى ما بدأنا به وهو موضوع الشك وبينا فيه بعض ما أردنا.
أما البيت الثاني مما ذكرت فهو متعلق بحالة النقد التي أمارسها بين حين وآخر عندما لا يروق لي عمل ما أو تصرف أراه فيه انحراف عن المسار وفيه خلل في التفكير والتطبيق.. هنا يرميني البعض بأنني خنت العهد الذي عاهدت عليه الله أن أكون جنديا في دعوة الإسلام وأن انتمائي ويقيني آخذ بالتململ، ويرى البعض أن هناك طرقا متعددة يمكن بها عرض الأفكار والانتقادات بدلا من النقد الصريح عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأن أي خلاف يمكن أن يعالج في أضيق الحدود. وجهة النظر هذه قد تكون صالحة في مرحلة التأسيس والتكوين والبناء، ولكن في مرحلة الانتشار والتمكين وفي ظل الثورات الإعلامية ومع دخول شيء من الدخن في النفوس والرجال أصبح النقد البناء المبني على أصول وحقائق لا يضر لو تم تناوله عبر وسائل الإعلام المختلفة، لأن الهدف منه هو تصحيح المسار والوقوف على المثالب والعيوب التي تمارس في الفضاء الواسع وفي العلن ممن يحسب على الإخوان وحركة حماس من رجال، وما دام أن ما يحدث من خلل على رءوس الأشهاد وفي العلن فلا ضير أن يكون النقد في العلن للتصرف لا للشخص الذي يشكل نموذجا للحالة.
لا شك في أننا بشر وفي أن للنفس البشرية نزعات ملائكية وأخرى شيطانية، فنحن خليط، وهذا الخليط عندما يسير على هدى ويقين يكون أقرب إلى الملائكية منه إلى الشيطانية، وكلما اقترب الإنسان من الله كان أقرب إلى الملائكية، والعكس بالعكس.
ممارسة النقد الذاتي في العلن لا تضر بل فيها منفعة للذات وتعطي صورة حسنة للآخرين عن الذات وتؤكد أن هناك حرية وديمقراطية واختلافا في وجهات النظر تهدف في الأساس إلى إثراء النقاش وتعميق الفهم وتبادل الأفكار وحوصلة النافع منها والاستفادة منه.. هذا أحد أهداف النقد الذي نمارسه إلى جانب أنه يبصّر ولي الأمر إلى مواطن الخلل التي تحدث خلال الممارسة العملية.. فمن منا من لا يخطئ؟، ومن منا من لا يحتاج دائما إلى تقويم وإرشاد وتصحيح مسار؟.
آمنا بالفكر الإسلامي وانتمينا إليه لأننا نعلم أنه ليس في هذا الفكر تنافس شخصي على دنيا، وتعلمنا أننا جنود أينما نوضع يجب أن نعمل لا أن نتصارع كأننا في معركة فيها منتصر وخاسر.. هذا التفكير تفكير الجاهل بالعمل الحركي الإسلامي.. الجاهل لسبب الانتماء للفكر الإسلامي، لأن المناصب ليست جهوية، والأماكن متغيرة، والأساس هو التكليف وليس التشريف، ولكن في بعض الأحيان يظن البعض أنه في صراع وفي معركة نصر وهزيمة.. إنها معركة وهمية، فلو حدث ما يدغدغ عواطفه وأحلامه نسي العقل وتصرف كرئيس عصابة يجيش من حوله من جوقة المنتفعين ويأتي بأفعال صبيانية خارجة عن العقل والفهم وتأتي في سياق الجهل الحقيقي للانتماء لهذه الدعوة وهذا الدين وإن تمسح فاعلها بالدين والتنظيم.
هذه التصرفات عندما تأتي من كبير هي بحاجة إلى وقفة تفكير تسبقها لحظة شك ليس في الأسس والأفكار، ولكن في أسباب الانتماء: هل هي خدمة لمصلحة خاصة أو خدمة لفكرة عامة جامعة؟.. هل المنصب للنجاح الذاتي أو لنجاح مشروع أكبر من الذات؟.
أمثال هؤلاء ليسوا بالعدد الكبير وهم أشبه بالشعرة السوداء في رأس خالص البياض يسهل تمييزها، وإذا سهل تمييزها سهل انتزاعها وتخليص الرأس منها، ولكنها بحاجة إلى شجاعة وجرأة فلا خوف على المشروع بل إن في ذلك تمتينا، وفي التمتين تحدث الصلابة.
وعليه يجب أن نعرض تصرفات البعض على ميزان الفحص لأن هذه التصرفات تعطي الثقة بالنفس وغياب العقل والاتزان، فمهما حاول هؤلاء التواري خلف إخلاص موهوم وأن يخدعوا الناس والمسؤول فمصير أفعالهم مفضوح ونياتهم مكشوفة، والمسالة مسألة وقت، فكثيرون هم من سقطوا على الطريق.