د. يونس الأسطل
( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (
( الكهف : 79 )
شتان بين الترحاب الكبير الذي حَظِيَتْ به قافلة شريان الحياة (3)، في كل من تركيا وسوريا والأردن، وبين الصَّلَف الذي جُوبهتْ به لدى الحكومة المصرية؛ حيث رُدَّتْ على أعقابها من ميناء العقبة إلى ميناء اللاذقية، لتدور من هناك إلى ميناء العريش، مع ما في ذلك من المخاطرة؛ باحتمال أن تعترضهم البحرية الصهيونية، فتمنعهم من الوصول، وقد اضطر معظم أفرادها أن ينتقلوا جوَّاً إلى مطار العريش، ولم يَعُدْ سراً أن الطائرة قد اضطرت للعودة بهم بعد الإقلاع؛ لِتَعَطُّلِ أَحَدِ محركاتها، وكادوا يكونون شهداء، لولا أن الله سَلَّم.
وقد وقعتْ مصادمات في ميناء العريش، حين هجمت عليهم شرطة الشَّغَب، وجعلت قرابة أربعين منهم يغرقون في دمائهم، دون ذنبٍ اقترفوه، وقد حار الكثيرون في تأويل ذلك السلوك الطائش من الحكومةِ المصرية، هل هو لمعاقبة أولئك المتضامنين على تجشم عناء شَدِّ الرحال؛ لكسر الحصار عن غزة، في الوقت الذي ترغب فيه تلك الحكومة في تشديد الخناق علينا، أم أرادوا به أن يُشَرِّدوا بهم مَنْ خلفهم، خاصة وأنهم أعلنوا عن ثلاث قوافل أخرى يتأهبون لنصرة قطاع غزة، ويأتون من فجاج عميقة، أولاها من فنزويلا، والثانية من جنوب أفريقيا، بينما تنطلق الثالثة من ماليزيا، والحبل على الجرّار.
وهناك احتمال أن يكون الهدف من ذلك العَنَتِ هو امتصاص ما لديهم من أموال في تذاكر الشحن، ونفقات السفر، أو ابتزازهم فيما اصطحبوه من السيارات، لا سيما الجديدة منها، وخاصة ذات الدفع الرباعي، وقد نشرت بعض الصحف أن المساومة الفاشلة كانت على ثلث سيارات الشحن كذلك، وهو ما أدى إلى المصادمات؛ لانتزاع الموافقة على الابتزاز بالقوة.
ولعل السبب الأقوى هو أن حكومة مصر قد تعهدت للأمريكان والصهاينة أن تكون مطيةً لهم فيما يسمى بالحرب على الإرهاب؛ ضماناً لاستمرار تدفق المساعدات الأمريكية التي لا تزيد على مليارين في السنة؛ لدعم النظام وحده، دون الشعب المغلوب على أمره الذي يعيش على الكفاف بأسوأ من عيشنا نحن المحاصرين هنا في سجن القطاع، ومَنْ يدري فلعل (مبارك) يهدف من وراء استرضاء الأمريكان أن يفوز بمباركة سياسة التوريث التي يمهد لها؛ أسوةً بأنظمةٍ عربية أخرى؟!.
مهما يكن من أمرٍ؛ فإن رموز النظام قد أَحَلُّوا قومهم دار البوار، فقد انطلقت المنابر الإعلامية مُنَدِّدةً أو متندرة بالغباء الذي وصم السياسة المصرية في التصرف المشين مع القافلة، كما أن عدداً من المسيرات الاحتجاجية قد جابتْ بعض العواصم الغربية والعربية؛ استنكاراً لسوء المعاملة التي كُوفِئتْ بها القافلة.
ولعل الأسوأ في ذلك أن يُجنَّدَ شيخ الأزهر في معركة النظام؛ لتزداد الصورة قتامةً وَقَتَرَةً، والله المستعان.
أما آية الكهف فتحدثت عن المشهد الأول في رحلة سيدنا موسى تلميذاً للعبد الصالح، الشهير في بعض الروايات بالخضر، ذلك أنه استأذن في اتِّباعهِ راجياً أن يعلمه مما عُلِّمَ رُشْداً، مع أنه قد اصطفاه ربُّه برسالاته وبكلامه، فكان يكلمه تكليماً، وقد اعتذر له الخضر بأنه لا يستطيع معه صبراً، فكان جوابه" سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا "، فاشترط عليه إن اتبعه ألَّا يسأله عن شيءٍ حتى يُحْدِثَ له منه ذكرا.
إنه ما كاد يركب في السفينة حتى راح يخرقها، فيخلع لوحاً منها وهي في عُباب البحر، فنسي سيدنا موسى عليه السلام شرطه، وراح يسأله معاتباً:" أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا " لذلك فقد عاتبه العبد الصالح برفقٍ، وقال:" أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ".
وبعد مشهدين آخرين، قَتَلَ في أحدهما غلاماً، وأصلح في الثاني جداراً يريد أن ينقضَّ فأقامه، وليس من غرضي أن أتوقف عند هذين المشهدين، بعد ذلك قال له:" هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا " انظر الكهف(66 – 78).
وقد كان سبب إقدامه على خرق السفينة أنها كانت مملوكة لمساكين يعملون في البحر، وأنه أراد أن يعيبها؛ لعلمه أن أمامهم مَلِكاً يأخذ كل سفينةٍ صالحةٍ غَصْباً، فهو شبيه بقطاع الطرق والبغاة، أو المحتلين والطغاة، حيث لا يرحم أحداً حتى المساكين ذوي المَتْرَبة.
إنه لو جرى مصادرة تلك السفينة لَتحوَّلَ أولئك المساكين إلى فقراء مُدْقِعين، فكان أخفُّ الضررين أن يفسدها جزئياً؛ حتى يزهد فيها المعربدون، فتسلم لأهلها المساكين، فهي مصدر رزقهم الذي يعيشون به على الكفاف، بينما لو انتزعت منهم فقد يضطرون إلى المسألة والتسول.
من هنا فقد قَيَّضَ الله جل جلاله لهم نبيَّه موسى، ووليَّه الخضر في رحلة لم نطلع على دوافعها أو وِجْهتها؛ لينقذ بهما تلك السفينة من الاستيلاء عليها؛ رحمة من ربك بالمساكين، والظاهر أنهم كانوا صالحين، فتولاهم ربهم برحمته، ولم يَدَعْهم نهباً للمجرمين.
ومن العبر في هذه القصة بمشاهدها الثلاثة أن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى لا يقضي للمؤمنين قضاءً إلا كان خيراً لهم، فهو يبلونا بالشر والخير فتنةً، ثم يُوَفِّي الصابرين أجرهم بغير حساب، كما يجزي الشاكرين، الحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء.
ومن عجبٍ أن ينكر سيدنا موسى عليه السلام على أستاذه تصرفاته، وقد ابْتُلِيَ بمثلها من قبل، لكنه ذهِلَ عنها في هذه الرحلة، فقد ألقته أمُّه رضيعاً في تابوتٍ، وألقت التابوت في اليم، فلم يغرق، ثم حُمِل إلى قتلة الأطفال، فلم يقتلوه، لِيُصْنَعَ على عين الله.
ثم إنه قد قَتَلَ قبطياً تشاجر مع إسرائيليٍّ من قوم موسى، بل هَمَّ في اليوم التالي بقتل رجلٍ آخر، لولا انكشاف أمره، وتأثره بموعظته؛ حتى لا يكون جباراً في الأرض، وليكون من المصلحين.
وإذا كان العبد الصالح لم يأخذ أجرةً على تسوية الجدار وتعديله؛ فإنه عليه السلام قد سقى للمرأتين بمدين أغنامهما، ولم يأخذ جُعْلاً، بل تَوَلَّى إلى الظلِّ فقال:" رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ " القصص (24).
فإذا جئنا من هناك وجدنا الحصار الخانق حول أعناقنا يوشك أن يسلخ عامه الرابع، وقد هَيَّأ الله جل وعلا لنا إخواناً في الإنسانية أو الدين يحاولون بما يحملون من المساعدات أن يمسكوا علينا رمق المسكنة، وهم يرفعون شعار شريان الحياة؛ فإنه إذا انقطع هذا الشريان صارت حياتنا في خطر، لكن الإدارة المصرية مَثَلُها مَثَلُ ذلك الملك الظالم الذي كان على طريق المسافرين، حيث يستولي على كلِّ سفينةٍ صالحةٍ غصباً، ولو كانت المساكين.
وإذا تمكنوا من حصر المساعدات في طريق وحيد، هو الصليب الأحمر المصري كما يَتَوعَّدون؛ فلن يصلنا منها إلا الفتات الذي يزهدون فيه؛ كالسفينة المعيبة التي استنكف زبانية الملك عن مصادرتها، أشبه ما يكون بسيارات الإسعاف التي وصلتنا من بعض الدول النفطية، وهي لا تصلح إلا لنقل الأغنام والسلع الغذائية، فقد فَكَّكوا كل أجهزة الإسعاف الأَوَّلِي، حتى أمست سياراتِ شَحْنٍ مطوَّرةً عن العربات المجرورة بالخيل والبغال والحمير.
إن الله مولانا تبارك وتعالى الذي أنجى أولئك المساكين من بلطجة الجبَّارين لسوف يرزقنا من حيث لا نحتسب، ولن يُضَيِّعنا أبداً؛ فإن الجرائم التي انتهكت بها كرامة القافلة الأخيرة قد جعلتهم أكثر إصراراً على مواصلة الضغط حتى ينكسر الحصار، وسيلحق بهم الألوف، بل الملايين ممن لا يحبون الظلم، ولا يركنون للظالمين.
ولا يحيق المكر السيِّءُ إلا بأهله، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.