يذكر جلعاد، نجل أرئيل شارون، حادثة تدلل بشكل لا يقبل التأويل على الطابع الخاص لتركيبة محمود عباس النفسية، وهذا يعين على فهم الخلفية التي يبلور على أساسها مواقفه.
يقول جلعاد، إنه خلال أول اجتماع جرى بين عباس -الذي كان يشغل منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير- ووالده في شتاء 1995، بمنزل شارون، الكائن في مزرعة "حفات هشكميم "، التي تقع للشرق من مدينة "سديروت"، وكان شارون في ذلك الوقت، مجرد نائب عن حزب الليكود.
فوجئ شارون عندما توجه إليه عباس شاكراً إياه على قيامه بطرد منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها من لبنان عام 1982، عندما كان شارون يشغل منصب وزير الحرب.
ويضيف جلعاد أن والده بلع ريقه، وسأل عباس مستهجناً عن السبب في تقديمه الشكر على ذلك، فكان رد عباس المدوي: " لأنه لولا ما قمت به يا سيدي لما كان هناك تيار داخل منظمة التحرير يطالب بتسوية الصراع مع (إسرائيل) بالوسائل السلمية" !
بالمناسبة، هذه الرواية التي ذكرها جلعاد شارون، سبقه – وإن بتفاصيل أقل – ناحوم برنيع، كبير المعلقين في صحيفة " يديعوت أحرنوت ".
عباس يشكر شارون لشنه حرب لبنان الأولى، التي قتل فيها آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، على أيدي جنود شارون وعملائه من " الموارنة "، لمجرد أن هذه الحرب الطاحنة قد وفرت الأجواء لعباس ومن هم على شاكلته على الخروج من القفص والمجاهرة بطرح أفكارهم التفريطية.
سلوك ينسجم مع نفسية عباس
لقد قدم عباس مؤشراً آخر على السمت الخاص لشخصيته ونفسيته، عندما أعلن مؤخراً أنه شخصياً متنازل عن حقه بالعودة إلى مدينة "صفد " التي هاجرت منها عائلته عام 1948.
عباس لم يكتف بذلك، بل إنه عمد إلى طمأنة الصهاينة بأنه طالما ظل رئيساً للسلطة الفلسطينية فإنه لن يسمح باندلاع انتفاضة ثالثة!.
وعلى الرغم من أن عباس سبق له أن أعلن في الماضي أنه لا يرى أن تنفيذ حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى الأراضي التي هجروا منها أمراً واقعياً، إلا أن هذه كانت المرة الأولى التي يوغل في محاولاته استرضاء الصهاينة، حيث اختار القناة الثانية في التلفزيون (الإسرائيلي) لكي يرسل برسائله المطمئنة.
وهو يدعو الصهاينة للاعتماد عليه، فهم في نظره مدعوون لمواصلة المشاريع الاستيطانية والتهويدية، والمستوطنين الصهاينة مطالبون بفتح صفحات جديدة في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين؛ دون أن يخشوا ردة فعل فلسطينية حقيقية، مادام عباس يلتزم بمنع اندلاع انتفاضة ثالثة.
من الواضح أنه من خلال التوقيت الذي اختاره عباس ووسيلة الإعلام التي اختار إجراء المقابلة معها، وهي القناة الثانية في التلفزيون (الإسرائيلي)، فإنما أراد أن يرسل رسائل مطمئنة للرأي العام الصهيوني عشية انطلاق الحملة الانتخابية (الإسرائيلية).
ومن غير المستبعد أن يكون هناك من أشار عليه بإطلاق هذا التصريحات، التي لا تتعارض مع قناعاته الشخصية، على اعتبار أن مثل هذه المواقف يمكن أن تساعد قادة ما يسمى بـ " أحزاب اليسار والوسط "، مثل: العمل وكاديما وحزب يائير لبيد، وحركة "ميريتس" في الحملة الانتخابية.
عباس لا يغادر مكانة "البعوضة"
لكن سرعان ما تبين لعباس تهاوي رهاناته وجسامة خيبة أمله، فبعد ساعات من إعلانه المهين، خرج وزير الخارجية (الإسرائيلي) أفيغدور ليبرمان ليبصق في وجه عباس الكالح، المتجرد من أي قدر من كرامة ومروءة ووطنية، ويكرر حكمه فيه، حيث قال ليبرمان أمام أركان حزبه "إسرائيل بيتنا" هازئاً من عباس: "أبو مازن مجرد بعوضة وقمامة، لا يصنع لنا معروفاً بتنازله عن حق العودة، إنه يتوجب أن يقدم الشكر لنا، لأنه بدوننا لم يكن لسلطته أن تتواصل ولو دقيقة واحدة في الضفة الغربية ".
لكن مما لا شك فيه أن اللطمة التي تلقاها عباس من قادة " اليسار والوسط " الصهيوني، الذي اعتقد أنه يساعدهم، كان وقعها أشد من بصقة ليبرمان.
فقد سارع هؤلاء لمطالبة عباس بتقديم المزيد من التنازلات؛ فعلى سبيل المثال نبهت رئيسة حزب العمل شيلي يحيموفيتش عباس بالقول أن عليه أن يعي أنها تؤمن بوجوب بقاء الكثير من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية في مكانها.
ولكي تضفي جدية على ما تقوله، فقد دافعت يحميوفيتش عن قرار حكومة بنيامين نتنياهو الاعتراف بالجامعة التي أقيمت في مستوطنة " أرئيل "، ثاني أكبر المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية.
وإن كان هذا ليس كافياً، فإن يائير لبيد، زعيم حزب " ييش عتيد "، قد أوضح لعباس أن أية حكومة سيشارك فيها في المستقبل ستدافع عن حق المستوطنين اليهود في إقامة المزيد من الوحدات السكنية، على اعتبار أن هذه الخطوة تأتي تلبية للزيادة الطبيعية في عدد المستوطنين.
قصارى القول، عباس يثبت مرة أخرى أنه مجرد جثة هامة، لا يمثل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فباسم من يتنازل عباس عن حق اللاجئين في العودة، ومن الذي فوضه الإقدام على ذلك.
عباس حالة ميئوس منها، الذي تواطأ على غزة وحرص على توفير غطاء دولي لحماية (إسرائيل) من المساءلة القانونية على جرائمها ضد أهالي قطاع غزة خلال حرب 2008 الإجرامية، بعد أن أمر بتقديم طلب بتأجيل البحث في تقرير "غولدستون".
للأسف الشديد، إن ما كل ما تقدم يجعل سياسيا صهيونيا أهوج امثال ليبرمان لا يرى في عباس أكثر من "بعوضة" !
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: "هل ستقاطع فصائل منظمة التحرير عباس بعد هذا التصريح الموغل في تماهيه مع الصهاينة، كما قاطعت زيارة أمير قطر لغزة، بدعوى أنه متحالف مع (إسرائيل)!.
هل سينسحب ممثلو هذه الفصائل من نادي السخف، الذي يطلق عليه اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد أن أطلق عباس هذه التصريحات، أم أنهم سيواصلون استجداء عباس ووزيره فياض حتى لا يقطع الأخير المخصصات المالية عنهم.