خلال زيارتي الأولى إلى القاهرة دعاني صديق كان دائم التردد على "المحروسة" إلى رحلة سريعة في المركب النهري خلال ليل القاهرة الصاخب.
اكتملت حمولته وانطلق المركب خلال اللحظات الأولى هادئا برفقة ركاب متنوعين من بينهم سيدة اعتقدت أنها أم خرجت في نزهة مع عائلتها بالإضافة إلى صبايا وشباب وفتيان.
وفجأة صدح جهاز "الاستيريو": "حط حاجرين على الشيشه.. وياني ياني ياني", وإذا بجميع الركاب يقفزون من مقاعدهم إلى وسط المركب.. و"إديها".
تحولت الجولة النهرية إلى حفلة رقص جماعي، وطبعا: هذا الأمر عادي وطبيعي جدا في القاهرة باعتبارها فقرة أساسية في الرحلة النهرية ونمطا سياحيا دارجا, ولأنني قادم من "غزة المحافظة" لم أستوعب "فقرة الرقص".
شعرت بالحرج وهممت بالنزول من المركب لكنني استدركت أنني وسط نهر النيل.
حتى "السيدة المحترمة" قدمت عرضا لدوران على "وحدة ونص", وحولت جسدها إلى زاوية قائمة 90 درجة, والشهادة لله: كانت محتشمة لم تخلع المنديل الذي على رأسها.
طبعا، هنا كثيرون منكم يتساءلون: "ما لنا وقصتك مع المقلب اللي شربته في المركب؟".
اكتشفت لاحقا أن لذلك علاقة بالسياسة!. نعم، للرقص في مصر علاقة بالسياسة, لأننا نتحدث عن عادات وتقاليد عميقة في بلد تتحرك على سليقتها ببساطة, وسذاجة, وطيبة, هاربة من أزماتها وهي اليوم تعيش في ظل حكم رئيس جاء من رحم الإخوان المسلمون مع شركاء من السلفيين ببرنامج يتعارض والعادات والثقافة العميقة أكثر عمقا من "الدولة العميقة".
للرقص والسياسة جذور في مصر تمتد إلى عصر الدولة الفرعونية 1558-1305 قبل الميلاد حين أقام المصريون جيشا من الجند المرتزقة, وكان الرقص الحربي وسيلة مألوفة من وسائل التسلية للقوات العسكرية في وقت راحتها.
كذلك فإنك تراه ممثلا في كل تماثيل المعبود "بس" الذي كان يعتبر إله الرقص في الأزمنة الفرعونية.
وخلال الدولة الحديثة لعب "الكباريه" دورا مؤثرا في الحياة السياسية في مصر منذ العشرينيات حتى مدة قريبة، فقد كان ملتقى رجال المال والأعمال الذين هم عصب السياسة ووقودها.
وقدم "الكباريه" ثلاثة أسماء لأشهر راقصات مصر في القرن العشرين: حكمت فهمي، وسامية جمال، وتحية كاريوكا.. النساء الثلاثة اخترقن سماء السياسة فأحدثن دويا هائلا.
وبعد ثورة 25 يناير استهوت السياسة الراقصة المصرية سما المصري، فبعد أن تهكمت بفيديو راقص تسخر فيه من مشروع النهضة أخرجت أغنية أخرى تسخر فيها من الدستور المصري والاستفتاء عليه مع رقصة ساخرة تبرز فيها على طريقتها سلبيات الدستور ومساوئه.
هناك عروض أخرى من الرقص الإعلامي تتمثل في حفلات مقدمي برامج على الفضائيات المصرية، فعلى سبيل المثال إحدى المذيعات تجيد "ترقيص لسانها" لتمارس الردح بعد أن "تفرد الملاية" (مصطلحات مصرية) ثم تواصل على طريقة "اللي ما يشتري يتفرج".
وبعض عروض الرقص طالتنا في غزة في حفلات الإثارة والابتذال الإعلامي باتهامنا بغزو القاهرة بسبعة آلاف مقاتل لمساندة الرئيس المصري في تصديه لاحتجاجات المعارضة إلى جانب "سيمفونية سيطرة الغزيين على سيناء".
طبعا: مهما رقصنا فلن نجاري الرقص المصري رغم تجربتنا في غزة بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية مع رقصة "الخمسة بلدي" على إيقاع أحد القياديين الفتحاويين, ولكن حفلته لم تنجح في غزة وحصل على عقد للرقص في الخليج.
ومن بين أهداف خصوم الرئيس المصري دفعه إلى الزاوية مستغلين الطيبة المصرية العميقة, وعليه: إما أن يستسلم أو إما أن يتعلم الرقص, وهذا ما يتنافى مع المدرسة المحافظة التي تخرج منها, فهل ينجح في استيعاب الحفلات التي تقام في مختلف محافظات مصر أو يستثمر الحلول الوسطية التي تجيد القاهرة إخراجها؟.