في ساحة المعركة يحافظ الجندي على ارتداء الخوذة عملاً بالتعليمات، لكنه في موضع آخر يرفعها تحيةً لرحيل الأبطال.
وهكذا في جهاز الشرطة يعملون لإنفاذ القانون وتأهيل المخالفين بالحبس، لكنهم كثيراً ما يقفون أمام واجبهم الإنساني إذا تغيّرت الصورة وولجوا إلى أدق التفاصيل.
قبل أيام وقّع الضابط ياسر نجم مدير مركز شرطة النصيرات أمر إلقاء القبض على نجل المواطن "و.أ" الرافض لدفع النفقة لوالده لكن دورية الشرطة المكلّفة بالمهمة عادت بتفاصيل مؤلمة.
وكان المواطن "و.أ" قد اشتكى قبل أيام على ابنه، لكن الشرطة التي لاحقت المدين وجدته يعيش في حالة مزرية هو وأشقائه مع أمهم في بيت فقير.
ويتلقى جهاز الشرطة الفلسطينية شهرياً مئات أوامر العمل لحبس مدينين وأصحاب ذمم ماليه لا تتجاوز في كثير من الحالات مئات الشواكل، ما يؤدي بأصحابها لقضاء فترات طويلة في السجن.
ونجحت مديرية الأوقاف في المحافظة الوسطى الأسبوع الماضي بتوفير مبالغ مالية من أهل الخير، ودفعتها لسداد ديون 14 سجيناً من أصحاب الذمم المالية نالوا حريتهم على الفور.
الشرطة والفقر
كثير من المدينين لم يمتهنوا النصب ولا الاحتيال، بل وقعوا في شرّ الديون وعجزوا عن سدادها، فولج لهم القانون معلناً حق غيرهم وعجزوا عن تدبّر أمورهم فمكثوا في السجن.
يقول الضابط نجم إن رجال الشرطة ذهبوا لإلقاء القبض على الابن المدين بالنفقة فوجدوه وأمه وإخوته يعيشون في بيت لا يملكون فيه الغطاء ولا الكساء.
ويضيف :"كأنهم خارج القرن الواحد والعشرين فمياه الصرف الصحي تملأ البيت ولا يوجد أي غطاء فقامت الشرطة بتوفير بعض الأغطية لهم".
ويذكر نجم قصة ثانية لأحد الباعة البسطاء الذي وقع في الدين ورأس ماله كله 200 شيكل يشتري بها ثمار البازيلاء ويبيعها ليأكل من الربح ويعيد دور البيع.
ويتابع: "اشتكى عليه الدائن فسجن حتى جرى طرح القضية على وزارة الأوقاف وتم تحريره وحالات أخرى مشابهة، ما كان له وقع طيب على نفوس السجناء".
وشكر نجم لمديرية الأوقاف مبادرتها واستجابتها للأمر؛ لمساعدة فئة لا تملك المال ووقعت في السجن، مشيراً أن مركزه يتلقى شهريا ما يقرب من 300 أمر معظمها ذمم مالية.
أما الناطق باسم الشرطة الفلسطينية أيمن البطنيجي فيشدد على أهمية دور الشرطة المجتمعي عبر حملات عدة مشابهة، تواصلت فيها الشرطة مع المؤسسات والجمهور.
ويضيف: "نرغب كثيراً في حل تلك المشاكل بعيداً عن المحاكم والسجون وقد رحب وزير الداخلية بذلك من قبل ودفع ديون الكثيرين، ونناشد أهل الخير بمساعدة أصحاب الذمم المالية".
ويوضح البطنيجي أن بعض الذمم المالية، تكون على مبالغ بسيطة تؤدي بحبس صاحبها شهورا طويلة، مقدّرا حجم تلك القضايا بـ60% من القضايا المحالة للشرطة .
أوقاف الوسطى
للمرة الأولى تغوص مديرية الأوقاف بالوسطى في وجع الناس وتمسح بيدها على وجع المدينين فتفكهم من قيودهم.
أولئك الناس الذين نالهم الإخفاق بالتقسيط وتقطّعت بهم السبل، فخاصمت النقود جيوبهم وصغّرت وجوههم بين البشر.
يشبك مدير أوقاف الوسطى عادل الهور أصابعه، قبل أن يؤكد أنه النشاط الأول من نوعه في المديرية والذي جاء عقب زيارة ميدانية لمركز توقيف السجناء .
ويضيف: "زرنا قبل أسبوع مركز توقيف وقدمنا للنزلاء مصاحف وكتيبات وطرح علينا مدير المركز ياسر نجم فكرة دفع ديون بعضهم وعليهم مبالغ مالية بسيطة فالتقطنا الفكرة وتوجهنا لأهل الخير حتى وفرنا المال وتم تحرير 14 نزيل".
ويرى الهور أن تلك السنة الحسنة ربما تغيب كثيراً عن المجتمع الفلسطيني في فك العاني وتحرير ربّ أسرة، قد يؤدي تركه لها لانحرافها من أجل دين بمئات الشواكل أو أقل.
وألقت تلك المبادرة التي تبنتها الأوقاف ومركز شرطة النصيرات، بظلالها الحسنة على النزلاء الذين نالوا حريتهم وانتهت مشكلتهم وكذلك على رجال الشرطة أنفسهم.
ويتابع: "نفكر في تطوير المشروع بالتواصل مع الجهات الرسمية وسنتجاوب بقدر ما نستطيع وطرح الأمر على الحكومة والمجلس التشريعي لحل هذه القضايا" .
أما النائب في المجلس التشريعي والمحكّم الشرعي د.سالم سلامة فيؤكد أن ما أقدمت عليه الأوقاف وشرطة النصيرات سوياً يعد من شيمة أهل الخير-كما يقول .
ويضيف:" أهل الخير لا يعنّتوا الناس ويسددوا ديونهم وينظروهم إلى ميسرة وإن لم يسدوا ينظروهم لوقت آخر وهناك شيء أعلى إن لم يستطيعوا أن يسقطوا جزءً من دينهم وهناك ما هو أفضل أن يسقطوا كامل الدين".
ويقول سلامة إن هذه العادة الحسنة لم تنقطع في زمن من الأزمان ما دام هناك عباد وتجارة وديون وخسارة سيظل هناك من يغرم.
وعلاوة على حاجة المجتمع لإنفاذ القانون يحتاج كثير من الضعفاء وأصحاب الحاجات للمسة عطف تمسح همومهم بقليل من المال وكثير من الشعور بالواجب .