ما بين "تحويشة العمر" وبيع ذهب الزوجة والاستعانة بقرض بنكي, جمع أبو أحمد ثمن شقة سكنية لعله يتمكن من تحقيق حلم العمر باقتنائها.
الرجل الثلاثيني عثر على فرصة اقتناء شقة بالتقسيط، ولكن عند حلول موعد التسليم وجد آماله قد علقت بالهواء لأن البناء لم يكتمل، ومنذ ذلك الحين يحاول أبو أحمد استرداد أمواله بكل الطرق الودية والقانونية، ولكن محاولاته كانت تبوء بالإخفاق، "لأن الشقة ملهاش أبو".
"الرسالة نت" حاولت بجولات مكوكية ما بين وزارتي الأشغال والحكم المحلي ونقابة المهندسين واتحاد المقاولين ومكاتب هندسية البحث عن الجهة المخولة لحماية حقوق المشترين في الشقق السكنية, فاكتشفت غياب الرقابة الحكومية على جودة بناء الشقق وتطبيق المخططات على أرض الواقع، ما يجعل المواطن ضحية سماسرة الشقق والمقاولين.
حالات تدليس
وتأكيدا لوجود حالات نصب يتعرض لها المواطنون على أيدي مستثمري المشاريع السكنية فإن يحيى الفرا رئيس نيابة غزة الجزئية قال إن حالات الاحتيال موجودة في قطاع غزة، "لكنها ليست ظاهرة"، مضيفا: "صاحب الشركة أو المقاول يتفق مع المشتري على مساحة الشقة وموقعها في مكان فضاء (أرض خالية)".
"المكاتب الهندسية: الرقابة والإشراف الهندسي غائبان
"
وتابع الفرا: "المشتري الذي يوقع العقود يدرك ما يفعل ويرتضي أن يشتري شيئا "مجهولا"، مشيرا إلى أن كثيرا من التجار والمستثمرين لا يستطيعون إيفاء التزاماتهم بتسليم الشقق وفق مواصفات التعاقد لخلافات تقع بينهم وبين البلدية على التراخيص, "فهنا يظهر عائق تسليم الشقة في الوقت المحدد".
وذكر على سبيل المثال أن تجارا وعدوا مواطنين بشقق على الطابقين الخامس والسادس، "في حين أن البلدية لم تسمح لهم بالبناء لأكثر من أربعة طوابق (...) عند ذلك تنشب الخلافات بعد أن يكون التاجر قد استثمر الأموال".
وبيّن رئيس نيابة غزة أن غالبية تلك الحالات تفسخ فيها التعاقدات أمام المحاكم المدنية، مشيرا إلى أن وجود العقد يرفع عنها صفة النصب والاحتيال.
ووفق قوله فإن تجارا يستغلون حاجة المواطنين بناء على عجزهم عن دفع المبالغ كاملة، "فبذلك يتعرض المواطن للتدليس لأنه محتاج فيسهل التحايل عليه".
وأشار الفرا إلى وجود حالات لمقاولين لم يلتزموا شروط العقد المبرم من حيث مواصفات البناء والجودة، موضحا أن مكان تلك القضايا للفصل فيها المحاكم المدنية، "وليس النيابة العامة".
"نقابة المهندسين: لا توجد جهة مخولة لحماية المستهلك
"
وأكد أنه لا توجد رقابة حكومية على تطبيق مواصفات الجودة, "ما يفتح الباب أمام المخالفات"، مبينا أن غالبية القضايا التي تواجه النيابة هي "شيكات لا تحمل أرصدة", ولافتا إلى أن تلك الشيكات لا تحمي المواطن في حال لم يحصل على شقته، "أو استرداده مبالغ مالية بقيمة الشيكات التي يحملها".
دون "أب"
أما على صعيد الرقابة على جودة البناء فأكد م. زهير مدوخ نائب رئيس هيئة المكاتب والشركات الهندسية لـ"الرسالة نت" وجود خلل في أساس منح التراخيص، "لأن البلدية عند ترخيصها للمستثمر تمنحه رخصة بناء خاص، ويعامل معاملة البناء الشخصي، في حين أنها تكون عامة لأنها ستباع للمواطنين".
ووفق قوله فإنه رغم طلب بلدية غزة عقد إشراف هندسي على أي بناء لمنحه التراخيص، فإن ما يحدث غالبا هو تخلي المقاول عن المهندس بمجرد الحصول على الرخصة.
وأكد مدوخ غياب الرقابة التي تتأكد من الوجود الفعلي لمهندس الإشراف على أرض الواقع، مبينا أن تلك القضية يجب أن تراقب ولا تترك لحسن النية.
وأشار إلى أن المنشآت ستباع للمواطنين، "وهم من سيكون ضحية في النهاية لبناء غير مطابق للمواصفات"، موضحا أن تجارا كثيرا يلجؤون إلى تشطيب خارجي جيد للتغطية على خلل داخلي قد يكون في عرض الأسقف أو كمية الحديد التي تكون في الحد الأدنى، ومنوها إلى أن صاحب البناء يحاول التوفير في كل جزئيات البناء لزيادة هامش الربح.
وحذر مدوخ من لجوء كثير من المستثمرين إلى عمل الباطون يدويا بخلط الإسمنت والحصمة للتوفير في الثمن، "لكن هذا الباطون في كثير من الحالات يكون غير متين أو متجانس كما هو مطلوب ما يجعله ضعيف البنية".
وذكر لـ"الرسالة" أنهم تواصلوا مع البلدية لعمل آليات للرقابة على الإشراف، "بالإضافة إلى المطالبة بتعليق لوحة تحمل اسم المكتب والمهندس المشرف على واجهة البنايات حديثة البناء للتواصل والتأكد من متانة البناء وسهولة المساءلة".
واقترح نائب رئيس هيئة المكاتب أن يمنح كل مكتب إشرافي شهادة سلامة إنشائية للبناء الذي يشرف عليه، "لأن ذلك يؤكد أن المبنى استوفى شروط السلامة، ويمثل رادعا بالنسبة للمكاتب"، ولكنه بين أن ذلك كله لا يزال قيد الدراسة ولم يخرج بعد إلى أرض الواقع.
واشتكى مدوخ غياب إطار قانوني يشرع الرقابة على الإشراف، مبينا في الوقت نفسه وجود قانون يدعو إلى التحقق من معايير الأمن والسلامة في الأبراج السكنية، "لكن ذلك غير مراقب لقلة الطواقم في الوزارة المعنية".
عمل منقوص
رئيس اتحاد المقاولين م. أسامة كحيل ذكر من جانبه أنهم طرحوا بقوة قضية فحص الإسمنت الداخل إلى القطاع ومطابقته المواصفات والمقاييس، مشيرا إلى وجود استجابة في هذه القضية عبر إعادة ترتيب أوراق المصانع وتوجيه المخالف منها إلى النيابة.
وحول الرقابة على الأبنية قال كحيل: "العمل في الجهات المعنية غير متكامل ولا مترابط"، مشيرا إلى أن القضية تحتاج صياغة وترتيبا باجتماع يعقد بين الأطراف المعنية للخروج بآلية واضحة للرقابة، "لأن هذه الآليات تحتاج تنظيما وإعادة صياغة".
"الأشغال: نراقب المشاريع التي ننفذها فقط
"
ووفق تقديره فإن أي جهد يبذل دون التنسيق مع الأطراف الأخرى المعنية بالقضية يذهب سدى، "ولن يعود بالفائدة على المواطنين".
أما عن قضية تسجيل الشقق، فأوضح أن غالبية الشقق الموجودة في قطاع غزة غير مسجلة في الطابو، مبينا أن ذلك يحرم المواطنين الاستفادة من الرهن العقاري والحصول على قروض تساعد في تنفيذ مشاريع صغيرة تحرك العجلة الاقتصادية.
وطالب كحيل بتفعيل أنظمة تسجيل الشقق خاصة في ظل إجراءات بيع غير سليمة، "لأنها جميعا تتم على أساس الثقة، فيحصل فيها خروق قانونية كبيرة".
كما طالب بإعادة النظر في التراخيص الصادرة عن البلديات، داعيا إلى سن قرارات خاصة بكل منطقة، "لأن بعض المناطق التي يرتفع فيها ثمن الأرض تحتاج تراخيص لبناء عدد طوابق أكثر ليقل ثمن الشقة فيها"، مشيرا إلى أن الوضع يحتاج العمل الجماعي المنظم.
من المسؤول؟
نقيب المهندسين المهندس كنعان عبيد تساءل من جانبه عن فحص مكونات مواد البناء من باطون وحجارة وبلاط وغيرها قائلا: "هل يجري التأكد من تنفيذ التصاميم الإنشائية من تسليح وأعمدة وقواعد وفق التخطيط الهندسي المدقق".
"الحكم المحلي: نحتاج تشريعا أو برتوكولا لتنظيم المسؤولية الرقابية
"
ولفت عبيد إلى وجود حلقة مفقودة بين المستثمر والمصمم، منوها إلى أنه لا توجد ضمانات لصحة تطبيق تصميمات المهندس، "خاصة أن معظم مهندسي الإشراف هم من طرف المقاول لا من طرف جهة إشراف عليا تعنى بالحفاظ على المستهلكين وصحة تنفيذ العقارات".
واقتراح إنشاء لجنة إشراف عليا تتكون من وزارتي الحكم المحلي والأشغال ونقابة المهندسين لمراقبة صحة تنفيذ المشاريع.
ليس دورنا
"الرسالة نت" توجهت بدورها إلى وزارة الأشغال العامة والإسكان التي نفت مسؤوليتها عن البنايات الاستثمارية والخاصة.
وأوضح الوكيل المساعد في الأشغال العامة والإسكان م. ناجي سرحان أن الأصل في رقابة تلك المباني يعود إلى المكتب الاستشاري المصمم ومكتب المشرف، مشيرا إلى أن أوراق الترخيص قد تحوي توقيع مهندس مشرف، "لكنه يحتاج تفعيلا".
وذكر سرحان أن وزارته لا تستطيع أن تشرف على كل مشروع يقام، "لأن ذلك ليس من مهماتها"، مبينا أنهم بصدد عقد ورش عمل تضم الوزارات المعنية والنقابة واتحاد الصناعات الإنشائية لبلورة خطة تحدد عمل كل طرف من الأطراف.
"النيابة: بعض المستثمرين لا يوفون التزاماتهم للمواطنين
"
ووفق قوله فإن الأشغال العامة والإسكان تعكف برفقة نظيرتها الاقتصاد على إنشاء برنامج لضبط جودة مواد البناء بـ"تصنيف المختبرات الهندسية التي تفحص المواد وتصنيف المصانع التي تنتجها"، مبينا أنها بذلك تراقب البناء بطريقة غير مباشرة عبر مراقبة مصانع الباطون.
وطالب الوكيل المساعد بإنهاء العمل بطريقة الصب اليدوي الخطير، "لأنها لا تخضع للمعايير، في حين أن المصنع يتحمل مسؤوليته في حالة سقوط المبنى أو تعرضه لأذى".
لعبة بأيدي التجار
في هذا السياق، فإن م. عادل قزاز مدير المشاريع في وزارة الحكم المحلي ذكر لـ"الرسالة نت" أن البلديات تطلب من أي جهة منفذة مهندسا للإشراف على العمل بصفته "جهة مسؤولة تتحمل العقاب أمام القانون في حال وجود أي خلل في نوع الإسمنت أو المتانة".
وطبقا لقوله فإن العقاب في حال المخالفة يكون غرامات قد تصل السجن، مبينا أن المكتب الهندسي يحاسب على سلامة المبنى حتى عشر سنوات من تاريخ إنشائه.
"اتحاد المقاولين: مرجعية الرقابة على الشقق ضائعة
"
وأكد القزاز أن أكثر المشكلات الموجودة هي التوقيع الشكلي على الأوراق من مهندس الإشراف دون الرقابة الفعلية على أرض الواقع، ولكنه أوضح أن مهمات البلدية تقتصر على التنظيم فقط، قائلا: "المشكلة في قطاع غزة أن المباني المعدة للتأجير أو للبيع ليس لها مرجعية للرقابة عليها ملهاش أبو".
وبين أن كثيرا من المقاولين يعملون بأقل التكاليف بانتقاص مواد التشطيب أو جلبها من أردأ الأنواع.
ورأى القزاز أنه يجب توكيل مهمة الرقابة في التنفيذ إلى نقابة المهندسين كما الدول المجاورة، قائلا: "نحتاج برتوكولا ينظم العمل في المسألة كي لا تترك المباني لعبة في أيدي التجار والمستثمرين".
وبعد أن أثبتت "الرسالة نت" غياب جهة حكومية مخولة لحماية حقوق المستهلك (مشتري الشقق السكنية) يبقى أمل المواطن "أبو أحمد" وغيره إيجاد جهة رقابية تحفظ حقوقهم في مساكن آمنة ومطابقة لمواصفات الجودة ومقاييسها معلقا في الهواء.