يقدم الكتاب مسحا تاريخيا عن الآثار والنتائج التي أسفرت عن هجرة مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي السابق إلى (إسرائيل) بين العامين 1990 و2010، وهو ما أسهم بدور كبير في تغيير وجه الدولة، خاصة على صعيد التزايد السكاني، للرد على ما يعده المؤلفان ليلي غليلي ورومان برونفمان "القنبلة الديموغرافية الفلسطينية".
وتكمن خصوصية الكتاب في كونه يقدم مقاربة نظرية مستندة لأعمق أدبيات الهجرة في العالم، بحيث يعيد وضع الهجرة الروسية إلى (إسرائيل) في سياقها التاريخي، بعيدا عن التقديمات الأيديولوجية التي تقدمها الرواية الصهيونية التقليدية، ولعل ما يكسب الكتاب أهمية خاصة التقديم الذي استهله رئيس جهاز الموساد الأسبق "أفرايم هاليفي".
يوضح المؤلفان أن "الهجرة الكبرى"، وهي موضوع الكتاب، بدأت أواخر عقد الثمانينيات، قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي النهائي، وتحديدا بين 1989 و1993 واصفا إياها بـ"هجرة الذعر"، بسبب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، علما بأن كثيرا منهم لم يكن لديه أي علاقة مع الصهيونية في مكان إقامتهم السابق، وجاء معظمهم من روسيا وأوكرانيا، وروسيا البيضاء وآسيا الوسطى، ولذلك لم يكن لديهم الكثير من التقدير لوطنهم الجديد (إسرائيل).
وحسب الجهاز المركزي للإحصاء السوفياتي للعام 1989، تواجد 1.4 مليون يهودي يعيشون في البلاد، منهم 877 ألفا هاجر لـ(إسرائيل)، جزء كبير منهم ليسوا يهودا، واستخدم العديد منهم وثائق مزورة للقدوم لـ(إسرائيل)، لتحسين مستوى معيشتهم، وتعزيز وضعهم المالي الشخصي.
الكتاب يوثق أن هيئة "ناتيف" التي تركز نشاطها بين يهود دول أوروبا الشرقية وبمصادقة رئيس الوزراء الراحل إسحاق شامير احتالت على مليون مهاجر روسي عام 1989 من خلال فرض قيود عليهم تمنع هجرتهم لأي دولة في العالم باستثنائها، عبر دفع رشى للديكتاتور الروماني السابق "نيكولاي تشاوشيسكو".
البراغماتية وليس الأيديولوجية
يرى الكتاب أن الهجرة اليهودية الكبيرة من دول الاتحاد السوفياتي إلى (إسرائيل) جاءت في ظل ظروف وشروط تاريخية خاصة لم يسبق لها مثيل، فالموجة التي وقعت في حقبة تسعينيات القرن الماضي جاءت على أرضية الفوضى التي استشرت في روسيا الجديدة عقب بشائر الضعف والتفكك في الاتحاد السوفياتي، والضبابية التي سادت الحياة والخوف مما يسميه اليهود "اللاسامية"، والرغبة بالخروج لما عدوه في حينه "العالم الحر".
ويتطرق الكتاب لمجموعة من السمات الإيجابية للمهاجرين اليهود الروس إلى (إسرائيل)، كونهم يتمتعون بنسبة ثقافة مهنية عالية مقارنة بباقي (الإسرائيليين)، خصوصا ببعض المجالات التي تهم الدولة، وتعمل فيها على صعيد التسويق العسكري كالصواريخ والأسلحة، والمهن الأساسية الأخرى كالطب والهندسة، وزيادة تعداد الملتحقين بالجيش، وارتفاع حجم الاحتياط، واتساع الأسواق الاستهلاكية، وخطوط الإنتاج، بما يصاحبه من نمو.
أما عن السمات السلبية لهم فيذكر الكتاب أهمها، ومنها أن الكثير من المهاجرين الروس يعملون في مجال الفساد والجريمة، بما يعكسه ذلك على المجتمع (الإسرائيلي) من آثار سلبية، وعدد كبير منهم لا يؤمنون بالديانة اليهودية، ولا يؤمون الكنس، ولا يؤدون الشعائر، ويوجد بينهم عدد من العملاء للمخابرات الروسية، سبق أن جندتهم إبان تواجدهم في دول الاتحاد السوفياتي، وأبقت على صلتها بهم عقب هجرتهم لـ(إسرائيل).
ويستمد المهاجرون اليهود الروس تأثيرهم من كثافتهم العددية، وتماسكهم النسبي مقارنة بطوائف أخرى، مما عكس نفسه في شتى مناحي الحياة، كالتوظيف واحتلال المراكز الهامة، ونسبتهم في الكنيست التي تجعلهم "بيضة القبان" في أي تشكيلة ائتلافية حكومية، واحتلال مراكز هامة في الوزارات، ومن شخصياتهم السياسية المؤثرة وزير الخارجية السابق "أفيغدور ليبرمان"، ونائبه "داني أيلون"، ورئيس الوكالة اليهودية "نتان شيرانسكي".
ويتناول الكتاب بتوسع الجوانب المختلفة للمهاجرين اليهود السوفيات، والدوافع وراءها، والتكوين الإثني، وأنماط الهوية والتوجهات الاجتماعية والتعبئة السياسية لديهم، ويتمحور حول انعكاسات هذه الهجرة على النسيج الاجتماعي والثقافي لـ(إسرائيل)، من خلال تحليل تلك القضايا على ضوء التغييرات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية في المجتمع (الإسرائيلي)، وديناميكية الصراع (الإسرائيلي) العربي، ومحاولات التسويات السلمية، وتدهور العلاقات (الإسرائيلية) الفلسطينية.
خطر الهجرة العكسية
يؤكد الكتاب أن مئات الآلاف من اليهود الروس ما زالوا ناطقين بالروسية، ولا يمكنهم مواصلة محادثة هاتفية باللغة العبرية، رغم أنهم يشكلون ما يقرب من 20% من مجمل المواطنين في (إسرائيل).
ويوضح المؤلفان أن الحماسة لاستيعاب الروس أخذت بالتلاشي تدريجيا، ووصل الحد في العديد من الأطياف السياسية لتوجيه أصابع الاتهام للقادمين الجدد بجلب ظواهر وآفات جديدة على المجتمع (الإسرائيلي) كالجريمة المنظمة والدعارة والإدمان على الكحول وغيرها، إضافة لدخول عصابات المافيا، وانتشار ظاهرة رشوة وشراء الأحزاب الفاعلة في الحلبة السياسية (الإسرائيلية).
وبعد مرور كل هذا السنوات على موجة الهجرة الكبرى لليهود السوفيات، يظهر الكتاب عددا من المشاكل التي شكلت صعوبات أمامهم، وحالت بينهم وبين الاندماج في المجتمع اليهودي في (إسرائيل)، أبرزها: عدم توفر أماكن عمل، وسياسة التمييز ضدهم كما تقوم الكثير من المؤسسات بطردهم، أو ترفض استيعابهم.
أما أكثر القضايا حساسية التي يعانونها هي تعريف اليهودي وفق الشريعة اليهودية، فالحديث يدور عن 33% منهم ليسوا يهودا وفقها.
في المقابل، فإن 50% منهم انخرطوا في حياة الدولة، وأصبحوا عنصرا مركزيا مهما في كل مجالات الحياة، 80 ألفا يعملون في الصناعات (الإسرائيلية)، كما خدموا في الجيش، وشاركوا في الكنيست.
وفي مفارقة تاريخية، يبدي المؤلفان القلق من حالة "استنزاف بشري" للدولة تتمثل في الارتفاع المستمر لقائمة المهاجرين اليهود الروس إلى خارج (إسرائيل)، لأنهم لم يحصلوا على ما حصل عليه المهاجرون الأوائل.
ويحذر المؤلفان أن (إسرائيل) ستخسر نفسها، إن لم يتدارك الموقف الخطير الذي لا يقل عن سواه من التهديدات الأمنية المحيطة بها، رغم أن هؤلاء اليهود الروس قد يصبحون بعد عدة عقود أغلبية في (إسرائيل)، ومن الممكن أن يصبح رئيس الدولة أو رئيس الحكومة منهم.
ورغم أن هؤلاء مهاجرون جدد، أصبحوا قوة لا يستهان بها في النسيج السياسي والاجتماعي (الإسرائيلي)، وقد يقدمون على تشكيل جسم متوحد ومتكاتف داخل دولة تعاني من اختلاف الثقافات وتناقضها.
الجزيرة نت