يعيش الإنسان في حياته باذلا ً كل جهده كي يرتقي من مكانة لمكانة، وينتقل من درجة إلى درجة في السلم الوظيفي أو المجتمعي. ومع هذا الانتقال والارتقاء تزداد مسؤولياته، ويزداد حجم العمل المطلوب منه، ويزداد معها حجم الأمانة الملقاة على كاهله. هذا الارتقاء وهذه المسميات الجديدة للمسؤولين لا يجب أن تزيدهم إلا يقيناً بأن ما أصابهم من نعمة فهو بتوفيق الله وبتيسيره عز وجل، وبالتالي يجب أن يزداد عطاؤهم، وأن تزداد أخلاقهم رفعة وسمواً. وقمة الأخلاق في هذا المجال هو التواضع، عملاً بالقاعدة الكونية: (من تواضع لله رفعه). إذن التواضع لله مع الموظفين ومع المراجعين، حتى تستمر النعمة التي هو فيها، بل تزيد وتنمو. والتواضع بكل تأكيد يشيع جواً من الحب والاحترام والتفاهم والتسامح كذلك. ولكن للأسف في بعض الأحيان، تجد أن الواقع عكس ذلك، فما أن يتم تكليف البعض (وخصوصاً أصحاب النفوس الضعيفة) بمسؤولية جديدة، إلا وتجد أن طريقة معاملته مع الآخرين بدأت تتغير، فيبدأ بإلقاء الأوامر هنا وهناك، وبنبرة فيها نوع من التعالي، ويبدأ برفض مقابلة هذا أو ذاك، من باب التنويه أنه أصبح رجلا مهماً، أو يجعل مرؤوسيه أو المراجعين ينتظرون على بابه، حتى يبدو لهم أنه مشغول بحل قضايا الأمة، ونسي أنه بالأمس القريب كان ينتقد مثل هذه التصرفات. هذه التصرفات التي تخرج صاحبها من التواضع، وتضعه في فئة المتكبرين، لذا فاسمعوا ماذا ينتظرهم بناءً على قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). وعلى النقيض فإن المتواضعين لهم مكانة عالية عند رب العالمين، يقول جعفر الصادق: (أحب الخلق إلى الله المتواضعين)، وفي الآخرة ليس لهم مكان إلا الجنة. وما أجمله من تشبيه للمتواضعين وللمتكبرين بالسنبلة، كلما كانت فارغة كلما كانت منتصبة، ويزداد انحناؤها كلما زاد الخير فيها والمنفعة، أي كلما كبرت ونضجت حبات القمح فيها. وجاء في كتاب الروح لابن القيم تعريف جميل للتواضع، حيث يقول: (هو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً، ولا يرى له عند أحدٍ حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه، ويكرمه، ويقربه.) وهذه الكلمات لوحدها تجعلنا نحرص على هذه الصفة، صفة الأنبياء والصالحين والأتقياء. وعلينا جميعاً وخصوصاً المسؤولين، مراجعة ذاتية لتصرفاتنا وأفعالنا وأقوالنا، وأن نحرص على زيادة هذه الصفة في نفوسنا حتى تصبح ركيزة في حياتنا، وهذا يكون بالاستماع إلى الآخرين مهما كانت درجتهم، والجلوس مع الجميع دون التقيد بالرسميات والأمور الشكلية، وكذلك التواصل مع الفئات كافة دون تمييز، ومشاركتهم مناسباتهم قدر الإمكان، وأمور أخرى تساهم في محو الكبر والكبرياء والتكبر من النفس بصورة كاملة. ورحم الله الشيخ الشعراوي الذي أراد أن يؤدب نفسه، ويعيدها إلى تواضعها المحمود، بعدما تم تكريمه من الطلاب في إحدى الجامعات المصرية، ولما شعر أن نوعاً من الغرور أو الكبر دخل في نفسه، أوقف مركبته أمام مسجد الحسين لينظف حماماته بيده، ليمحو ما أصابها من مرض عارض، وليذكرها بحقيقتها، فتعود إلى تواضعها المنشود. ومع هذا كله فإن التواضع يصبح مذموماً وغير مقبول في بعض الأحيان، وخصوصاً مع الأعداء، بل إن المحمود حينها هو الخيلاء والتبختر، وفي ساحات القتال على وجه الخصوص. وكذلك فإن التواضع مع المسؤول الظالم غير مقبول، حيث أن ذلك يعتبر مداهنة، وسنداً له في تماديه في ظلمه. وكذلك لا يجب أن يظهر المتواضع بمظهر الضعيف، فحينها تنقلب الإيجابيات إلى سلبيات. وأخيراً هي كثيرة الفوائد المرجوة من هذه الصفة الحميدة، ليس بأقلها أنه لا رفعة ولا تميز في الدنيا والآخرة بلا.. تواضع.
مقال: تواضع
د. م. أسامة عبد الحليم العيسوي