مرت سنوات طوال منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، تبدلت فيها إدارات، وتقلبت على الحكم فيها حكومات، وجرى على الأرض وفي الكون متغيرات كثيرة، تعرضت فيها القضية الفلسطينية فيها إلى تحولات، ومرت فيها عبر منعطفات يصعب وصفها أو إجمالها أو الإحاطة بها في مقالة أو حتى في كتاب، إلا أن أمرين أو موضوعين بقيا ثابتين لم يتسرب إليهما التغير، وبقيا متواصلين، وهما أمر الاستيطان الذي بقي مستمرا ولم يتوقف بل ازداد اتساعا ونشاطا وكثافة، وأمر المفاوضات التي حافظت على استمراريتها بالرغم مما اعتراها من بطء أحيانا أو توقف في بعض أشكالها أحيانا أخرى، إلا أنها بقيت مستمرة وإن غيرت شكلها حسب الظروف والمتغيرات التي غشيت المنطقة عموما وفلسطين خصوصا.
فالثابت في هذا الشأن أن الاستيطان ظل مستمرا وظلت المفاوضات كذلك مستمرة، حتى أن المفاوضات اتخذت شكل الحياة لدى كبير المفاوضين الفلسطينيين د. صائب عريقات الذي ألف كتابا أسماه (الحياة مفاوضات) واتخذت المفاوضات شكل الخيار الأول والوحيد لدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية فأصبحت المفاوضات الخيار الأول والثاني والثالث وما بعدها تظل المفاوضات هي الخيار.
إن المتابع لهذا الشأن يتراءى له أن قضيتي الاستيطان والمفاوضات أصبحتا متلازمتين لا ينفكان كتوأم سيامي لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وكأن كل قضية تستمد أسباب حياتها من بقاء الأخرى. فعلى سبيل المثال، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية وضعت شرطا لاستئناف المفاوضات المباشرة والعلنية وهو أن يتوقف الاستيطان، وتعطل هذا الشكل من المفاوضات - مع بقائه في أشكال أخرى- مدة ليست بالقصيرة، إلا أن القيادة الفلسطينية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية استجابت للضغوط والعروض الأمريكية ووافقت على استئناف مفاوضات مباشرة وعلنية بين وفد منظمة التحرير الفلسطينية ووفد إسرائيلي بدأت في واشنطن، وتستمر لتسعة أشهر، دون أن يتوقف أي شكل من أشكال الاستيطان أو التوسع الاستيطاني، بل لقد سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى إعلانات بالجملة عن بناء آلاف الوحدات الإستيطانية، وقد علقت صحيفة معاريف على هذا الوضع بتقرير لها عنونته "عباس يبني المستوطنات بيديه بموافقته على "الأسرى مقابل الاستيطان" وجاء فيه "إنّ رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس" ساهم بيديه ببناء آلاف الوحدات الاستيطانية المدعومة بموافقة أمريكية ضمن معادلة الأسرى مقابل الاستيطان؛ ممّا جعل فرحته بالإفراج عن قدامى الأسرى الفلسطينيين لا تدوم طويلا".
لم يكن شرط وقف الاستيطان الشرط الوحيد الذي تم إسقاطه بموافقة منظمة التحرير الفلسطينية، فقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسة السلطة الفلسطينية على سبيل المثال تنازلت عن مطلب وجود رعاية دولية أكثر نزاهة وشفافية وأقل انحيازا للجانب الإسرائيلي، وإطلاق سراح الأسرى، واكتفي بالقبول باعلان إسرائيل استعدادها لإطلاق سراح ما مجموعه مائة وأربعة أسرى هم الذين اصطلح على تسميتهم أسرى ما قبل توقيع اتفاقيات أوسلو، أي من مضى على أسرهم أكثر من عشرين عاما، واحتفظت إسرائيل بحقها في تقسيمهم إلى أربعة مجموعات تقوم بالإفراج عنهم وفق أربعة مراحل تقوم هي وحدها باختيار أسماء كل مجموعة منهم، واشترطت إسرائيل لإتمام هذه المراحل أن يوازي ذلك تقدم في عملية المفاوضات، وهذا يعني بالضرورة أن ترتهن عملية إطلاق سراحهم وإتمام هذه المراحل بما يتم إحرازه من تقدم في المفاوضات، وهذا يعني أيضا أن إسرائيل تستطيع وقف هذه العملية أو إلغائها من طرف واحد دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي قدرة على الضغط على إسرائيل لإتمام هذه المراحل، ومما يؤكد ذلك أن هؤلاء الأسرى ظلوا طوال هذه الفترة منذ توقيع اتفاقية أوسلو رهينة لعملية المفاوضات لأن إطلاق سراحهم كان أحد استحقاقات توقيع اتفاقية أوسلو، لكنهم ظلوا رهينة عملية المفاوضات طوال هذه الفترة إذ أن إسرائيل ظلت تحتفظ بالقرار من طرف واحد. وإذا كان موضوع الإفراج عن أي أسير موضع ترحيب من الكل الفلسطيني إلا أن هذا لا يمثل بديلا عن بقية الثوابت في القضية الفلسطينية، بل هو أحد هذه الثوابت التي لا يطغى ثابت منها على ثابت. فالثوابت الفلسطينية كل لا يتجزأ ولا يمكن أخذ أحدها على حساب الآخر. وإن كان من الجائز أن يتحقق أحدها قبل الآخر لا أن يستبدل أحدها بالآخر، ولا يكون على حسابه.
منذ أن انعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، حافظت المفاوضات على استمراريتها في ظل نشاط استيطاني مكثف ومحموم، وشهد توسعا في كافة الاتجاهات. فمنذ ذلك المؤتمر والاستيطان مستمر في إفراغ المفاوضات من محتواها واستمر يسقط أهدافها التي أعلن عنها في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط هدفا تلو الآخر، حتى لم يعد للمفاوضات من أهدافها ما تستمر من أجل تحقيقه، ومع ذلك تستمر المفاوضات تطحن نفسها وتطحن معها كل ما تطاله من ثوابت القضية الفلسطينية التي اصطلح عليها أبناء الشعب الفلسطيني على اختلاف مشاربهم السياسية.
تستمر المفاوضات ويستمر الاستيطان في علاقة جدلية يصعب تفسيرها أو إحاطتها بالفهم، إلا أن المفاوضات هي حارسة الاستيطان، فطالما المفاوضات مستمرة في ظل الاستيطان، فإن الاستيطان يكتسب كل يوم أرضا جديدة يسحبها من تحت أرجل الفلسطينيين، حتى ما يبقى للمفاوضات من أرض تتفاوض عليها. ولا أجد المفاوضات إلا حارسا للاستيطان تحرسه حتى يأتي مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين على كل فلسطين، وحينما يتنهي المشروع الاستيطاني الصهيوني ويبلغ مداه تتوقف حينها المفاوضات لأن المشروع الاستيطاني لم يعد بحاجة لها لتحرسه. ومنتهى القول أن المفاوضات لن تتوقف حتى يتوقف المشروع الإستيطاني، وليس العكس إطلاقا، والمشروع الاستيطاني لن يتوقف حتى يستكمل أهدافه. فما دام هناك استيطان فستكون هناك مفاوضات، فالمفاوضات هي حارسة الاستيطان، وسيظل الحال على ما هو عليه ما دامت الحياة مفاوضات، وما دامت المفاوضات ثم المفاوضات هي وحدها الخيارات التي يطرحها ويتمسك بها رئيس السلطة الفلسطينية في رام وقيادة منظمة التحرير.
قد يقول قائل إن طاقم المفاوضات قد قدم استقالته، وفي هذا المقام لا بد من التعليق بالقول أن السيد صائب عريقات كبير المفاوضات قد أدمن الاستقالة من منصبه كما أدمن المفاوضات، وفي كل مرة ترفض أو تسحب الاستقالة ويستكمل مشوار الحياة التي يفضلها، ثم إن السيد عريقات مكلف من منظمة التحرير، أليس هو رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير، فكيف يمكن تفسير أن اللجنة المركزية لحركة فتح أعادت تكليف طاقم المفاوضات بتسيير أعمال المفاوضات إلى حين تشكيل طاقم جديد أو إلى نهاية فترة التسعة أشهر التي مضى منها ثلاثة أشهر فقط. فأين هي منظمة التحرير بلجنتها التنفيذية وفصائلها الوطنية، الذين يتبارون للتنديد إذا ما فكر أحد بالإتيان على انتقاد منظمة التحرير. من سلوك حركة فتح ممثلة بلجنتها المركزية حين تقرر ذلك، أليست اللجنة التنفيذية هي الجهة صاحبة الاختصاص ولو شكليا.
لن يتوقف الاستيطان حتى تتوقف المفاوضات جديا وبكافة أشكالها، فحين تسقط قيادة منظمة التحرير هذا الخيار أو على الأقل حين تسقط وحدانية هذا الخيار فحينئذ يمكن الحديث عن توقف الاستيطان. يجب أن تتوقف المفاوضات بكل أشكالها حتى يمكن الحديث عن توقف الاستيطان، لن يستطيع الاستيطان استكمال طريقه بدون حارسه. فلتتوقف المفاوضات عن حراسة المشروع الاستيطاني حتى يتوقف.