عام كامل يطوي بساطه، ويقوَّض خيامه، ويشد رحاله بعد أن تصرَّمت أيامه وتفرَّقت أوصاله، حوى بين جنبيه حِكْماً وعبراً، وأحداثاً وعظات. كم من طفل تيتَّم، وكم من امرأة ترملت، وكم من متأهل تأيّم ، وكم من مريضٍ عوفي، وكم من سليمٍ في التراب ووري ، وكم من أهل دار فرحوا بمولود، وآخرين تعزَّوْا بمفقود ، كم من أتراحٍ انقلبت أفراحاً ، وكم من أفراحٍ انقلبت أتراحاً ، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.
عام كامل سار بنا حثيثاً ليبعدنا عن الدنيا ويقربنا إلى الآخرة، يباعِدُنا من دار العمل ويقربنا من دار الجزاء. أخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه: ( ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل ) .
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل..
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيـام وهن قلائــل.
عام كامل ينقضي والناس ما بين مبتهج برحيله ومحزون على فراقه. فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأنه يقرّب فرَجه: أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا.
"أقوام يحزنون على فراق عام 2013 لأنه طوى مرحلة من أعمارهم وقربهم إلى آجالهم وأدناهم إلى لحظة لا يدرون ما مصيرهم فيها إما إلى جنة وإما إلى نار
"
وآخر يفرح بانقضاء العام ، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها. وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية .
وأقوام يحزنون على فراقه لأنه طوى مرحلة من أعمارهم وقربهم إلى آجالهم وأدناهم إلى لحظة لا يدرون ما مصيرهم فيها إما إلى جنة وإما إلى نار ، وهم مشفقون مما أودعوه فيه من الأعمال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً }
محاسبة النفس
لا بد من وقفة لكل واحد في نهاية العام ، ماذا قدم لآخرته ؟ وماذا فعل لنصرة دينه ؟ وكم سعى لنفع إخوانه من المحتاجين والمساكين ؟
أصحاب الأموال ورجال الأعمال يقومون بمحاسبة دقيقة ومراجعة شاملة لكل ما فعلوه خلال عام كامل ، كم كسبوا وكم خسروا ، وماذا أنفقوا وكم ادخروا ، والخاسر منهم يفتش عن سبب الخسارة ليجتنبها ، والرابح يطور تجارته لجني المزيد .
ونحن أحق بطول المحاسبة من أهل التجارات والأموال، لننظر ماذا قدمنا لعام أدبر وماذا أعددنا لعام أقبل .{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــا وكل يوم مضـى يدني من الأجل..
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمـل.
إن أهم ما نودع فيه هذا العام ونستقبل آخر ، هو محاسبة النفس فنتصفّح ما صدر من أفعالنا ، فإن كانت محمودةً أمضيناها وأتبعناها بما شاكلها وضاهاها، وإن كانت مذمومةً استدركناها بالتوبة وانتهينا عن مثلها{إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
قال الفاروق رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ}.( حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/157) .
يقول ابن القيم رحمه الله : ( المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود). ( مدارج السالكين، 1/187 )
الغفلة
إن غياب المحاسبة أو الغفلة عنها نذير غرق الأمة في لجج الفساد والتيه المنتهية بنزول العقوبة في الدنيا ونارٍ وقودها الناس والحجارة في الآخرة ، وإنما تنتشر المعاصي حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً فينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون بلا زمام ولا خطام { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً } .
والمحاسبة هي مطالعة القلب وتفكره في أعماله وأعمال اللسان وأعمال الجوارح ، فمن ترك نفسه تلغ في المعصية دون أن يحاسبها فكأنما قتلها، قال تعالى { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ، قال ابن كثير رحمه الله : " أي لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ". ( التفسير 1 / 637 ) . وقال سفيان بن عيينة رحمه الله :" كان الرجل يلقى أخاه في زمن السلف الصالح فيقول له : اتق الله وإن استطعت ألا تسيء إلى من تحبه فافعل، فقيل له : وهل يسيء الإنسان إلى من يحبه ؟ ، قال : سبحان الله نفسك أحب الأشياء إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها " .وقال الحسن البصري رحمه الله : " لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ماذا أردت بكلمتي ؟ ماذا أردت بشربتي ؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه " ، وقال بعض السلف :" من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها " .
"لا بد من وقفة لكل واحد في نهاية العام ، ماذا قدم لآخرته ؟ وماذا فعل لنصرة دينه ؟ وكم سعى لنفع إخوانه من المحتاجين والمساكين؟
"
فلينظر كل واحد إلى تقصيره ، وليعزم عزماً أكيداً أن يحسن فيما يستقبله من أيام ، وليأخذ بالعزيمة الصادقة مع ربه على أن يكون عامه الجديد خيراً مما قد مضى .فالنفس سريعة التقلب ميالة إلى الشر كما أخبر بارئها عنها بقوله {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :" اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق ، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء آخر كل سنة أو شهر أو يوم ، حرصاً منهم على الدنيا وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ؟ ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك " أ.هـ . ( الإحياء 4 / 588 ) .
ومحاسبة النفس كما عرفها الماوردي هي :" أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال في نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل ". ( أدب الدين والدنيا 342 ) .وقال ابن القيم رحمه الله :" المحاسبة أن يميز العبد بين ما لَه وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه لأنه مسافر سفراً لا يعود" .( المدارج ) .
مراجعات
ــ المحاسبة الجادة تمنع الأمة من الغرق في لجج الفساد والتيه المنتهية بنارٍ وقودها الناس والحجارة ، فحينما لا يتوقع الفرد والمجتمع حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في شهواتهم وأهوائهم ويتقلبون في مهاوي الخطيئة بلا زمام ولا خطام ، وهذه حال أهل النار الذين أخبر الله عن سبب شقائهم فقال { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتـِنَا كِذَّاباً } .
ــ المحاسبة تمكن العبد من الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن اطلع على عيوب نفسه أنزلها منزلتها الحقيقية ومنعها من الكبر والتغطرس فمعرفة قدر النفس تورث العبد تذللاً لله وعبودية له فلا يمنُّ بعمله مهما عظم ولا يحتقر ذنبه مهما صغر وهذه علامة التوفيق ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه : " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً ".
كما أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أَمْر ربها فيفلح صاحبها ويفوز برحمة الله ورضوانه ، قال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . قال مالك بن دينار رحمه الله :" رحم الله عبداً قال لنفسه : الست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً".
ــ المحاسبة تنمي عند المسلم الشعور بالمسؤولية والتصرف وفق ميزان الشرع الدقيق . يقول ابن القيم رحمه الله محذراً من ترك المحاسبة:" أضرُّ ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها ، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذا حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ويُمَشِّي الحال ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها "أ . هـ . ( المدارج). ورحم الله القائل : والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.
فاحذر هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يُعْمِ أو يُصِم وراعها وهي في الأعمال سائمة وإن هي استَحْلَتِ المرعى فلا تسم كم حسَّنَت لذةً للمرء قاتلة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم قال ميمون بن مهران رحمه الله :" إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه " .
أنواع المحاسبة
أولها : أن يحاسب العبد نفسه على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى ، ثم يسعى في جبر النقص بالنوافل .
ثانيها : أن يحاسبها بعد القيام بالعمل على المعاصي التي ارتكبها ، يقول ابن القيم رحمه الله :" وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك ، فحينئذٍ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب . ويتابع : وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب والعبد عبد ، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ... فإذا قايست ظهر لك أنها ( أي النفس ) منبع كل شر وأساس كل نقص وأن حدَّها : أنها الجاهلة الظالمة وأنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لها ما زكت أبداً ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى خير البتة فهناك تقول حقاً أبوء بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي .أ . هـ . رحمه الله . ( المدارج ) .
"{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
"
النوع الثالث من أنواع محاسبة النفس ، هو محاسبتها على أمر كان تركه خيراً من فعله ، أو على فعل مباح لم فعله ؟ أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله :" إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط في الشيء فيرجع إلى نفسه ويقول ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا والله ما لي عذر بها ووالله لا أعود لهذا أبداً .
نماذج من السلف
ولأهمية المحاسبة فقد كان السلف يحاسبون أنفسهم حساباً شديداً :
ــ قال أنس بن مالك رضي الله عنه :سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين ، بخٍ بخٍ !! والله بُنيَّ الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك " .
ــ وقال إبراهيم التيمي :" مثَّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين ؟ ، فقالت : أريد أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، قلت : فأنتِ في الأمنية فاعملي .
ــ وحكى صاحبٌ للأحنف بن قيس قال : كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل ، وكان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه : يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ .
ــ ونُقِل عن توبة بن الصَّمة أنه جلس يوماً ليحاسب نفسه فعدَّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ، فصرخ فقال : يا ويلتي ! ألقى الملك بواحد وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ؟.
المصدر: موقع سعد البريك - بتصرف