بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي – جامعة الأزهر بغزة
رحم الله الإمام الشافعي الذي قال:
إني رأيت سكون الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
فإذا كان هذا ما علَّمنا إياه الإمام الشافعي، يرحمه الله، فكيف بنا نحن لا نتعلمه ولا نتدبر قوله، بل كيف بنا لا نحاول أن نتلمس دربه أو أن نقتفي أثره؟! كيف بنا نرى الماء راكداً ونقبل عليه، بالرغم من سكونه وفساده، دون أن نحاول تسييله لنستطيبه؟!
وإذا كان فساد الماء يصنعه سكونه، فكيف لا نُسَيِّل نحن الماء كي نجرف به فساده، فيَجْري إلينا نقياً طيباً يَلَذُ لنا، فتستطيبه نفوسنا، ويروي الظمأ على العافية فينا؟!
وإذا كان فساد أوضاعنا هو من سكونها، فكيف لا نُهرع نحن إلى تحريكها وتغييرها، لاسيما وإننا على ذلك قادرون؟!
ليس من المخلصين في جامعة الأزهر – وهم كثيرون وإن كانوا في غالبيتهم صامتين – من ينكر أن العاملين وجامعتهم في محنة كبيرة، غير أن ما لا ينبغي لنا أن ننساه، هو أن الذين يصرون على الصمود والنهوض، إنما يأخذون القرار الصعب في الزمن الصعب، ليكون القرار الصعب بحجم المعاناة وبحجم الألم الذي سيتحول – بالحتمية – إلى أمل. فالمحن القاسية تتطلب تدابير أكثر قسوة، ذلك أن المرض حين يشتد، إنما يتطلب دواء أقوى، والأمر الذي تزداد شدته، يستعان عليه بما يماثله من شدة وقوة وصلابة، ورحم الله شاعرنا الذي قال:
لكل شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد
فبعد أن اجتاحت جامعتنا أمراض وأعراض وأوضاع وأوجاع وأمور ونوادر لا نقبلها ولا قَِبَلَ لنا بها، فإن هذا يعني تخريب الجامعة وإفسادها. والخراب والتخريب والفساد والإفساد إذا دخل إلى الجامعة، فإنه يكون نوعاً من الفساد الذي وصفه توماس الإكويني Thomas Aquinas بأنه أسوأ الفساد، حيث قال: "إن فساد الأفضل إنما هو الفساد الأسوأ" (Corruption of the best becomes the worst)، وهو ما وصفه شكسبير، أيضاً بقوله: "إن للزنابق الفاسدة رائحة أشد نتانة بكثير من رائحة الأعشاب الضارة".
(Lilies that fester smell [turn] far worse than weeds)
باختصار شديد ومفيد: إن خراب الجامعة أو دخول الفساد إليها هو تماماً كفساد الملح، ذلك أنه إذا فسد الملح، فبماذا نملح الطعام لنحفظه؟! وهو ما قال الشاعر فيه:
بالملح يُحفظ ما يُخشى تغيره فكيف بالملح إن حلَّت به الغِيَرُ؟!
إننا إذ كنا ندرك أننا في محنة قاسية، فإنه ينبغي لنا أن نؤمن إيماناً يقينياً بأنه لا مجال للخوف من اقتحام هذه المحنة ومواجهتها، وهنا ينبغي لنا أن نتذكر أن خوف الجبناء من الموت لا ينجيهم منه، بل "إن الجبناء" – كما يقول الشاعر والمسرحي الإنجليزي الفذ شكسبير في مسرحيته الشهيرة يوليوس قيصر Julius Caesar – "يموتون عدة مرات قبل أن يدركهم الموت"، (Cowards die many times before their deaths). أما نحن – نحن أصحاب جامعة الأزهر من العاملين فيها وطلبتها وأمنائها، المتضررين من خرابها وفسادها، والمنتفعين من نجاحها، والمباهين بتقدمها وإبداعها – فلسنا من الجبناء إن شاء الله، ولن نكون.
إذا كنا نعترف اليوم أننا وجامعتنا في محنة قاسية، فإنه ينبغي لنا أن نفهم يقيناً أن خروجنا من هذه المحنة لن يتأتى بالكلام أو التمنيات، ولا بالهجوم أو الاستعداءات أو الاتهامات، ولا بمعاتبة الأيام والليالي ولا بالبكائيات، ذلك أن "من عتب على الدهر طالت معتبته"، كما قال أكثم بن صيفي الذي ذهب قوله، حتى اليوم، مثلاً. لكن ينبغي لنا أن نؤمن بأنه ليس لامرئ لُدِغ من ذات الجحر مرتين عذر، الأمر الذي يعني وجوب التفكر والتدبر، لأن "من نظر في العواقب سلم من النوائب"، وقد قال المثل الإنجليزي: “Better be sure than sorry”. ليس هذا فقط، وإنما، أيضاً، يلزم التخطيط مع الحذر واليقظة، ففي ذلك قال الإمام الشافعي: "قَدِّرْ لرجلك قبل الخطو موضعها.."، كما قال لقيط بن يعمر: "دَمِّثْ لجنبك قبل النوم مضطجعاً".
كلما حاول البعض منا وضع أيادينا على أوجاعنا ضاع طرف الخيط منا مرة أخرى! لماذا؟! لأن ثقافة الفوضى وتجاوز النظام وتبرير الفساد والإفساد قد بلغ منا مبلغاً انحسر – مع تراكمه وتصاعده وتضخمه – رجاؤنا، وانعدم مع وجوده قياسنا، فبتنا أقرب إلى الغرق، إلا إذا اقتنعنا – عملياً – أن هناك فرصة منحسرة للإنقاذ فيها قليل من المتسع، واضعين في الاعتبار أن النحلة المثابرة – وإن عافت نفسها الزهور أو توقفت عن أكل السكر المطحون – فإنه يظل لديها بقية من رحيق. فالنحلة المثابرة إذا قررت أن تفرز العسل، فإنها حتماً ستفرزه. ونحن – نحن جميعا في جامعة الأزهر وفي صدارتنا أمناؤها أمناؤنا – إذا قررنا أن ننتج فسننتج، وإذا قررنا أن نصلح فسنصلح، وإذا قررنا أن نغير ونتغير فسنغير وسنتغير، وإذا قررنا أن ننتقل من حالة الركود والسكون إلى الحركة والتغيير، مستلهمين قول الإمام الشافعي الذي صدَّرْنا به كتابنا هذا، فإننا حتماً سنتحرك وسنغير وسنتغير وسننطلق وسنبدع.
إن أكثر ما يؤرقني وأستغربه وأستهجنه ولا أفهمه، هو أن فينا – نحن العاملين في جامعة الأزهر– آحاداً قوية صلبة لكنها مبعثرة! ألا يثير العجب أن يستعصي علينا – نحن في جامعة الأزهر – جمع هذه الآحاد القوية المبعثرة والتأليف بينها؟! ألا يثير العجب فينا أن ندواتنا ومهرجاناتنا ولقاءاتنا – وما أكثرها – لم تجمع فيما بيننا، ولم تراكم إبداعاتنا وإنجازاتنا وطاقاتنا وقوانا، ولم تؤلف بين أعمالنا وسواعدنا؟! ألا يثير العجب أننا لم نجرب – ولو مرة واحدة – أن نأخذ بالناصية، فنقف لنقول بصوت عال: ما الذي دهانا ودهى جامعتنا؟! ما الذي يجري في هذه الجامعة التي ينبغي لها أن تكون الأولى وتكون الرائدة وتكون المبدعة؟! إننا لم نجرب – ولو مرة واحدة – أن نصرخ صرخة مضرية نهتك بها كل الحجب: "أوقفوا هذا الخراب الذي يجري، وحاكموا هذا الفساد الذي يسري ويستشري، علماً أن الخراب والفساد، لن يتوقف إلا بهزتين متتابعتين ومتلازمتين لا مجال لفصل إحداهما عن الأخرى: أما الأولى فهي العقاب والتأديب المبني على المراجعة الحصيفة والتحقيق العادل، وأما الثانية فهي التغيير المحكوم بخطة مدروسة للإصلاح والتطوير".
على الرغم من كل المعاناة والعتمة والقلق والألم، إلا أن الاستبشار والتفاؤل والأمل يظل للأقوياء والأوفياء رافعة وأملاً، وقد قال شاعرنا:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
أما فسحة الأمل هذه فلها بوابتها: إنها بوابة التغيير الذي يعني الحركة والتحول – وهو عكس الركود وعكس السكون – بغية الإصلاح والتطوير.
إن التغيير ثقافة وليس مصطلحاً براقاً يخطف أبصارنا في البداية، ثم يأخذنا إلى المجهول وغير المأمول في النهاية! إن في مُكنة كل واحد فينا أن يتفاءل مع شيء من الحذر والتحوط والتخطيط في ضوء إيمانه بضرورة احترام ثقافة التغيير وامتلاك القدرة على فهم هذه الثقافة واستيعابها وتوظيفها. فالتغيير ثقافة تعني الإيمان اليقيني الراسخ بأن الحياة ذاتها – بكل ما فيها من تفاصيل نحبها أو نكرهها – لا يمكن أن تبقى ساكنة، ذلك أن عجلة الحياة قد خلقها الله سبحانه وتعالى لتتحرك وتسير. فهذه العجلة لا تستطيع السكوت على السكون. إن عجلة التاريخ تعني التغيير وتعني المطالبة بالتغيير، وهذه العجلة لا تكف أبداً عن الدوران والمسير، كما أنها لا تكف عن المطالبة بالتغيير كي لا تنكسر رؤوس من يظلون جامدين ساكنين. إنهم جامدون ساكنون ساكتون، لكن عجلة الحياة متحركة، والمتحرك إما أن يتجاوز الساكن ويتخطاه فيخلفه بعيداً وراءه، أو أن يأتي فوقه فيطحنه طحناً وسط حركته التي لا تتوقف عن الدوران والمسير.
إن التغيير الذي نريد في الجامعة ليس تغييراً يعني فقط استبدال شخوص بشخوص، فالشخصيات تموت وتفنى والمؤسسات تدوم وتبقى، ويظل في مخ التاريخ محفوراً من له صالح الأعمال. فالتغيير الحقيقي هو نوع من الثقافة في الإدارة وتصريف الأمور... إنه ثقافة ينبغي لأصحابها أن يدركوا أن كل من – أو كل ما – يقف حائلاً دون الصالح العام، ينبغي له أن يُزال من طريقه، لاسيما وإن صاحب الصالح العام في شوق عارم إلى إحداث التغيير وإلى أن يكون جزءاً منه، ودافعاً له. إن استبدال أحد بآخر ليس هو فقط ما نطلب، وليس هو فقط ما ننشد. إن استبدال أحد بآخر، لمجرد استكمال الهيكلية أو البناء، لا يستكمل الهيكلية ولا يدعم البناء ولا يدفع المؤسسة إلى الأمام، فذلك لا يشكل عائقاً فقط، وإنما يعمل أيضاً على إبقاء الوضع على ما كان عليه، ساكناً إلى أبعد حد، ذلك أن مثل هذا السكون هو الذي أوصل من لا يريدون التغيير، ومن وقفوا ويقفون ضد التغيير، إلى مواقع لا يستحقونها ولا يستأهلونها، ولم يثبتوا أنهم على قدرها وأنهم الأجدر بها. وعليه، فإننا نريد تغييراً جذرياً يطال الشكل والمحتوى والمنهج، وهو ما تقتضيه الآن ثقافة العصر في التغيير.
أما آخر الكلام، فحيث إننا على أعتاب عام جامعي جديد، فإنه يملؤني وكثيرون غيري الأمل ويطفح في قلوبنا الرجاء في أن تفرد ثقافة التغيير علينا جناحيها، فنصبح جزءاً منها ولا ننسلخ في أي حال عنها، غير أن الأمل يملؤنا أيضاً في أن نحسن الإسهام في إنجاز ثقافة التغيير، وفي تغيير ثقافة التغيير التي كنا عليها، ذلك أنها كانت ثقافة مريضة ضلت السبيل إذ استهدفت تغيير الشخوص دون المنهج والأداء. أما ثقافة التغيير الحقيقية التي ننشد إنما هي ثقافة تغيير الشكل والمحتوى، أي تغيير الشخوص والمنهج والآداء في آن، ونحن على ذلك – إن أردنا – قادرون. إذاً، فلْنُرِدْ اليوم ما نريد، قبل أن يأتي غد بما لا نريد! فهل نسمع، وهل نعي ما نسمع ؟