القدس - لمراسلنا
أيام قليلة فقط باعدت بين إصدار الاحتلال ما يسمى بالعفو بحق الشاب عنان صبح من مدينة نابلس، وبين تمزيق جسده برصاصات عدة بعد اقتحام منزله والبحث عنه بفوهات البنادق بين الأغطية والملاءات البيضاء، وهي دقائق فقط حتى تحولت إلى حمراء تقطر دماً متسائلة عن خرافة الأمن المزعوم.
وليس عنان هو أول المغدورين بأكذوبة العفو، بل سبقه العديد وربما يلحق به آخرون وفق تاريخ الاحتلال المزين بنقض العهود والغدر بالصديق قبل العدو والمكر في كل السياسات، حتى أصبحت وعوداته كالسراب مكشوفة أمام الجميع.. أو على الأقل أمام أولي الألباب.
فبالأمس القريب أصدر الاحتلال مجدداً عفواً بحق عشرات من عناصر حركة فتح بالضفة المحتلة، لتنضم هذه القرارات إلى سلسلة امتيازات يمنحها الاحتلال لفتح جزاءً على تنسيقها الأمني الذي وأد المقاومة بالضفة منذ سنوات مضت، فهي كعادتها تغلّب الحزبية على المصلحة الوطنية، وتجلى ذلك فيما يسمى بالتنسيق لإصدار عفو لعناصر جناحها العسكري الذي كان يعرف بكتائب الأقصى، ولديها فليس مهماً الأقصى وإنما عناصر هذه الكتائب التي تمارس محاربة ذوي القربى والتقرب من الاحتلال، وما زال الأخير يصادر ويهوّد ويحفر تحت الأقصى متزامناً مع قبوله توبة فتح عن جريمة اقترفتها بحق احتلال أعزل حين فكرت أن تقاوم يوماً.
"أبناؤنا شهداء!"
السيدة س.أ من مدينة نابلس وهي والدة أحد مطاردي كتائب شهداء الأقصى، أو المطادرين السابقين الذين شملهم العفو إن صح التعبير، تبدي استياءها من أكذوبة العفو بحق ابنها، فتقول:" عندما كان ابني مطارداً في أزقة البلدة القديمة كنت أراه أكثر من الآن، وعندما شمله العفو فرحنا كثيراً ولكننا اكتشفنا أنه مجرد خدعة، وما زال ولدي ينام في سجن الجنيد التابع للسلطة ولا أراه إلا قليلاً وأخشى عليه أكثر من ذي قبل".
أما والدة مطارد آخر فتقول إنها تنتظر في كل يوم نبأ استشهاد ابنها، وتضيف:" لا أصدق أبدا قصة العفو هذه ولا أدري لم قبلوا بها، فأبناؤنا شهداء مع وقف التنفيذ وخلال كل فترة بسيطة ينقصون واحداً إما شهيداً أو أسيراً، ولا يشرفني أن يستشهد ولدي بهذه الطريقة.. أريد له أن يستشهد وهو مقبل على الجنود لا وهو مشمول بعفوهم".
وبهذه الطريقة سعت فتح إلى تدمير أسطورة "فرسان الليل" الجزء المشرق الوحيد من الحركة، وهي ذاتها المجموعة التي عجز الاحتلال أن يصل إليها حين كبدته الخسائر في أزقة البلدة القديمة من مدينة نابلس واستشهد العديد منهم بعظيم الشرف، أما البقية فحبيسو سجن الجنيد المخزي يشتاقون السلاح ولا تعطيهم فتح إلا الوعودات والكلمات ومن ثم الإعدام على يد الاحتلال بدم بارد حين تسمح لهم أجهزتهم بالخروج قليلاً من السجن.
الخيانة نهج
قلب المعايير هذا جعل من القضية ثورة تُطعِم ولا تُطعَم، والمصلحة الشخصية قبل الحزبية وقبل الوطنية تخيّم، ولعل كلمات المحلل السياسي عبد الستار قاسم كانت أقرب لوصف هذا العفو، فقال:" من العار أن نقول إن أحد الفلسطينيين حصل على العفو لأنه كان مقاوماً، ثم إن الاحتلال لا يأخذ العفو على محمل الجد بل يتخذه غطاء لقتل المقاومين".
ولا يخفى على أحد تبادل الأدوار بين ساستها وعسكرها، لتتحول شهداء الأقصى إلى أجهزة أمنية يديرها جنرال أمريكي يأمرهم باعتقال وقتل ومحاصرة حماة القضية وأسود المقاومة، ثم يأمرهم بشطب الاستشهاديين والعمليات الفدائية من قاموسهم وكذلك آية كتبوها على شعار كتائبهم "قاتلوهم يعذبهم الله.." لتحل مكانها كلمات المفاوضات والتنسيق الأمني وضرب المقاومة وإرضاء دايتون، حتى أضحت بالفعل الخيانة نهج وليست فحسب وجهة نظر.
وتتغلغل أيادي فتح في ضرب المقاومة، من حصار لها سياسياً إلى التحريض لضرب غزة وحرب أكلت الأخضر واليابس، إلى محاولة إلغاء تقرير غولدستون خيط الأمل الوحيد للثكالى وأطفال الحرب.
وفي هذا يقول عبد الستار قاسم:"" الخيانة أصبحت متجذرة في هذه الحركة، وللأسف فإنها لا تقبض ثمناً مقابل خيانتها، فحتى الآن يستمر الاستيطان الذي تطالب بإنهائه منذ فترة طويلة، وهذا العفو ياتي في ظل المصادقة على بناء الوحدات الاستيطانية، وكأن الاحتلال يقول لفتح أنا أفعل ما أشاء وأنت تفعلين ما أشاء!".
امتيازات
وتتنوع الهدايا التي يقدمها الاحتلال إلى قادة فتح وعناصرها، فعفو عن مطلوبين ثم إفراج عن أسرى فتحاويين وتقديم بطاقات شخصيات مهمة فقط لقادة فتح في الوقت الذي يحاصر فيه صنّاع المقاومة في أصغر بقعة من فلسطين، ولكن المستغرب أن فتح تسعى وراء الاحتلال وهداياه متناسية أنه من يفضحها دوماً.
ولا يغيب عن ذهن أحد أن الفساد المسشتري في سلطة أوسلو تم فضحه من قبل وسائل الإعلام الصهيونية، وأن الاعتقالات ما زالت تتواصل بحق أبناء فتح والاغتيالات أيضا مستمرة بحق الشرفاء منهم، وما زالت صاحبة الرصاصة الأولى تلهث وراء احتلالٍ لا يريد منها إلا خدمات له دون مقابل.. أما فلسطين وأقصاها والضفة فتئنّ وتستغيث.
فهل ستعود صور الاستشهاديين الذين زلزلوا الضفة والأرض المحتلة تحت أقدام الاحتلال.. وتغيب صور الفساد الأخلاقي والمالي والتنسيق الأمني عن واقع الضفة قبل أن تغيب عن شاشات التلفاز؟