أطفال الضفة.. رحلة أسر مبكرة

الضفة - لمراسلنا

على مدخل منزلهما في شارع الشلالة وسط الخليل جلس الشقيقان الحسن ابن الاثني عشر ربيعاً والأمير الذي يصغره بعامين يتمازحان ويتبادلان الضحكات، ولكنها دقائق معدودة حتى عرف احتلال رابض على أرضهما كيف ينتزع منهما ابتسامة بريئة وينشر الحزن في نفوس أفراد عائلتهما.

فدون سابق إنذار أطلت فرقة جنود راجلة مدججة بالسلاح من رأس الشارع متجهة نحو الطفلين اللذين ظنا أنهم يقصدون المرور فقط، ولكن السلاسل الحديدية التي كبل بها الجنود أياديهما وقطع القماش التي عصّبوا بها أعينهما كانت بداية اعتقال لطفلين فلسطينيين لم يرتكبا ذنباً سوى أنهما كذلك.

رحلة الأسر

بكاء الأمير المتواصل ودموعه التي أحرقت عينيه لغزارتها لم تشفع له في قلوب جنود الاحتلال إن ملكوا قلوباً، أثناء احتجازهم له لمدة تسع ساعات متواصلة بعيداً عن شقيقه الحسن في مركز توقيف داخل مدرسة فلسطينية وسط الخليل احتلها الجنود وحولوها إلى معسكر خاص بهم، ومن هنا تبدأ رحلة اختطاف الحسن بعيْد الإفراج عن شقيقه المغرق بالدموع.

ويقول:" اقتادوني إلى مركز التوقيف وحققوا معي لمدة ثلاث ساعات حول إلقائي الحجارة تجاههم، وأخبرتهم أكثر من مرة أنني لم أرشقهم بالحجارة وأنني كنت ألعب مع شقيقي على مدخل المنزل، ولكنهم بقوا مصرين على اتهامي ومن ثم جعلوني أوقع على ورقة باللغة العبرية لم أفهم منها شيئا".

تلك الساعات لم تكن سوى بداية اعتقال الحسن، حيث تبعتها رحلة طويلة في إحدى الآليات تجاه سجن عوفر قرب رام الله، ليزج بالطفل عند الساعة الثالثة والنصف فجراً داخل قسم 12 في المعتقل وسط أسرى بالغين، ولكن مخالفة القانون هذه متجذرة في جيشٍ كان نهجه قتل الأطفال منذ تأسيسه.

أما العائلة المصدومة بنبأ اعتقال طفليها فلم تدر ما تفعل في وجه بطش احتلال يستعرض قوته أمام الأطفال، وسارعت إلى إخبار المؤسسات الحقوقية وجمعية الصليب الأحمر الدولية ووسائل الإعلام المختلفة حول هذا الانتهاك، ولكن كل ذلك لم يجد نفعاً في إطلاق سراح الحسن من سجون الاحتلال.

ويقول والده فضل المحتسب:" فوجئنا بنبأ اعتقال الطفلين، وبإبقاء الحسن سجيناً لدى الاحتلال، ثم هاتفت أحد المحامين الموكلين بمتابعة ملفات الأسرى، وفوجئت بأن الاحتلال عيّن محاكمة للحسن في اليوم التالي فتوجهنا إلى سجن عوفر".

أصعب لحظات

بكل شوق جلس والد الحسن وشقيقه الأكبر ينتظران الطفل في قاعة المحكمة، ولم يستطيعا حبس دموعهما حين دخل القاعة مكبلاً بالقيود ومرتدياً الزي البني الذي يرغم الاحتلال الأسرى الفلسطينيين على لبسه، ولكنه مدّهما بالعزم حين لم يُفرح عناصر الاحتلال بالبكاء أو إظهار الاستياء بل بقي مبتمساً ثابتاً لم تهز طرفه مجريات المحكمة وتعزيزات الجنود حوله حتى عندما أقبل شقيقه محتضناً إياه متحدياً كل تلك الإجراءات.

وكأنه شاب بلغ أشده أو كأنه مطلوب منذ سنوات طويلة، بدأت وقائع جلسة محاكمة الحسن بتهمة إلقاء الحجارة تجاه جنود الاحتلال وسط الخليل، وبدأ الادعاء يسرد لائحة الاتهام ويهاجم الصبي الذي تصل كرة القدم أقصى اهتماماته.

ويقول:" في تلك اللحظات لم أكن أشعر بالخوف، شعرت بالحزن حين رأيت دموع والدي ولكنني لم أدمع حتى أقهر الجنود، وحينها بدأت بالتفكير حول مصيري وما الذي سيحل بي وما الحكم الذي سيوجهونه إلي".

وبعد عدة ساعات قررت محكمة الاحتلال الإفراج عن الطفل بكفالة مالية قدرها خمسة آلاف شيكل "أكثر من ألف دولار" يدفعها والده على شرط أن يأتي بنجله لجلسة المحاكمة القادمة مهما كان موعدها، فلم يكن أمام الوالد إلا القبول بأي ثمن كي يعيد الطفل إلى حضن عائلته بعد تسعة أيام من الاعتقال.

ويختتم الحسن:" عندما وصلت البيت أردت فقط رؤية شقيقي الأمير وتقبيله لأنه شعر بالخوف أثناء اعتقالنا، وفرحت للإفراج عني ولأنني لم أخف طوال الوقت، وحتى الآن أسرد قصة اعتقالي وأنا أضحك ولم ينجحوا بزرع الحزن داخلي".

حكاية ألم أخرى

كل التفاصيل السابقة لم تكن الأولى من نوعها التي يكررها الاحتلال بحق الفلسطينيين، فمسلسل اعتقاله للأطفال مستمر منذ احتلاله هذه الأرض، وتتنوع القصص وصولاً إلى حكاية الطفل المقدسي أحمد صيام (11 عاما) الذي اعتدى جنود الاحتلال عليه بعد اعتقاله.

ففي ساعات فجر أحد الأيام وبينما كان أحمد نائماً بين أشقائه علا صوت طرق الباب بشدة على يد جنود ذوي بنية ضخمة آمرين والده بإحضار الطفل، ليحتجزوه في إحدى آلياتهم معلنين اعتقاله.

ويقول أحمد:" عندما طرقوا الباب حسبنا أنهم جاءوا ليهدموا منزلنا فبدأنا بالبكاء، ولكنهم عندما طلبوني عرفت أنها عملية اعتقال لي، وعندما ركبت الآلية كبلوا يديّ واعتقلوا طفلاً آخر، ثم وصلنا إلى مركز توقيف المسكوبية وأمرونا بالركوع أمامهم ووضع أيدينا على ركبنا، وكلما أمرونا بشيء صفعنا الضابط صفعة قاسية حتى نزف أنفي بالدماء ولم يكترثوا لذلك، كنا نبكي أحياناً ونصمد احياناً أخرى".

كل ذلك لم يشبع عطش الاحتلال لتعذيب الأطفال المقدسيين، فبعد صفعهم وضربهم بقسوة شرع الجنود عديمو الرحمة بإحراق أيدي الأطفال بصفائح ساخنة، وصرخوا بهم طالبين منهم معلومات لا يعرفونها، وبالطبع أمروهم بالتوقيع على بضعة أوراق باللغة العبرية دون أن يعرف فحواها.

ويضيف:" بعد التنكيل بي جاء أبي إليهم وعندما رأيته بدأت بالبكاء وقلت له "ضربوني"، فطلب من الجنود الإفراج عني ولكنهم رفضوا ذلك حتى أجبروه على التوقيع على أربعة آلاف شيكل ثم أفرجوا عني".

سياسة دائمة

ولا تقتصر هذه القصص المؤلمة على أحمد أو الحسن أو الأمير، فالعديد من الأطفال ما زال الاحتلال يعتقلهم في ظروف قاسية أسوة بالبالغين من جميع مدن الضفة المحتلة وقراها ومخيماتها.

وتشير تقارير حقوقية أن قوات الاحتلال تحتجز ما يقارب 344 طفلا وطفلة في سجونها معظمهم في (قسم الأشبال) بسجن هشارون في سن ما دون الثامنة عشرة، وكغيرهم من الأسرى البالغين يحرم الأشبال من حقهم بالاتصال بالعالم الخارجي وزيارة عائلاتهم ويعانون من سياسة الإهمال الطبي بحقهم والحرمان من التعليم وفقدان العناية النفسية وعدم وجود مرشدين نفسيين أو توفر ألعاب الثقافة والتسلية التي يمكن أن تشغلهم خلال فترة اعتقالهم.

وتؤكد التقارير أن سجن الأشبال شهد أقصى حالات العزل والقمع في السجون خلال الفترة السابقة، حيث عاش الأطفال في سجن تلموند ظروفاً سيئة، وفرضاً مستمراً للغرامات المالية التي كانت تستهلك النسب الأكبر من "حساب الكانتينا" الخاص بهم.. وهكذا يعيش أطفال الضفة المحتلة رهينة أجبن جيش في العالم يخشى ألعابهم وتحركاتهم.

 

البث المباشر