كعادته كل يوم جمعة، يحوّل الاحتلال محيط المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس المحتلة إلى ثكنة عسكرية منذ صلاة الفجر، وينشر الآلاف من عناصره في أزقة البلدة وعند بوابات المسجد، ويمنع من هم دون الخمسين عاماً من دخول المسجد لأداء الصلاة، وينشر الحواجز في كل أنحاء البلدة القديمة ومداخلها. إجراءات الاحتلال لا تقتصر على الفلسطينيين المتوجّهين إلى المسجد الأقصى، أو الفلسطينيين المسيحيين من زوار كنيسة القيامة من خارج القدس، بل تشمل المقدسيين أنفسهم خلال تنقّلهم داخل المدينة، وعلى نحو خاص في المناسبات الوطنية والدينية .
في ظل هذه الإجراءات المشددة يضطر مئات الفلسطينيين، وربما الآلاف، لأداء الصلاة عند مداخل القدس وبوابات المسجد الأقصى الخارجية، ليضيف الاحتلال الصهيوني إلى سجلات التاريخ أن هناك على هذا الكوكب من يدعي أنه "واحة ديمقراطية"، وهو يمنع الناس من أداء طقوسهم الدينية، ويضع شروطاً ومحددات عمرية لمن يحق له أداء هذه الطقوس، ويكتب على الفلسطينيين أن ينتظروا تجاوز سن الخمسين حتى يحق لهم أداء الصلاة .
تضيف "إسرائيل" إلى سجل التاريخ أن هناك احتلالاً يهاجم من يسمح لهم بدخول القدس، أثناء صلاتهم داخل المساجد، ويغرقهم بالغاز المسيل للدموع ويمطرهم بالرصاص، ويرتكب بحقهم المجازر بين الحين والآخر، وإن عدم الوسيلة والذريعة لتنفيذ مجزرة إرهابية، يتيح ل "مختل عقلياً" أن يفعلها في سبيل إشاعة الرعب في قلوب الفلسطينيين ودفعهم للرحيل .
لا تنحصر القضية في منع حرية العبادة، وهي حق أصيل لكل إنسان، بل في وجود الإنسان الفلسطيني على أرضه، حيث يدرك الاحتلال أن وجود الفلسطيني بذاته، يقف حجر عثرة أمام مشروع تهويد فلسطين بالكامل، ويعطّل استكمال المخطط الصهيوني الذي يتجاوز حدود فلسطين إلى ما بين الفرات والنيل، وهو مخطط ليس افتراضياً أو مستتراً، بل منصوص عليه ويمارس من جهات رسمية في الكيان، وما طقوس إحياء الهيكل المزعوم ونصب مجسم رمزي له على بعد أمتار من المسجد الأقصى، سوى واحد من مؤشرات المخطط التهويدي الذي يجري وسط صمت الأمتين العربية والإسلامية، فيما يتداعى أدعياء الإسلام ل "الجهاد" الداخلي فيما بين المسلمين أنفسهم، و"الثورة" و"المقاومة" بين العرب أنفسهم تحت عناوين ما أنزل الله بها من سلطان، مملوءة بالتضليل والضلال والخداع والانخداع، والبيع والشراء في سوق الذمم الخاوية .
هناك دول وجهات جنّدت نفسها لخدمة المشروع الصهيوني ومشروع الفتنة الكبرى ، وهو المخطط الأخطر على الأمة والأسهل لأعدائها لتوجه الضربة القاضية لكل ما بقي خارج مشروع التهويد والهيمنة. هناك دول وجهات لم تدفع فلساً في مقاومة احتلال فلسطين والقدس، لكنها تموّل السيارات المفخخة والاغتيالات في الأسواق العربية والمساجد والمنازل والجامعات، وإسقاط القذائف على رؤوس الأطفال ونسج الأكاذيب والأضاليل. هناك دول وجهات تستخدم آخر إنجازات التكنولوجيا لتفتيش سائح على كرسي متحرك في معابرها، لكنها تفتح حدودها لتمرير حملة الأحزمة الناسفة، وهناك من يحاكم شعراء على أحلامهم، لكنه يسخّر منابره لنشر السموم في جسد الأمة. فهل يبقى للقدس غير بعض القلوب التي ترنو لمدينة السلام، وبعض عيون ترحل إليها كل يوم؟