بدايةً من الضروري التوضيح، بأن مباحثات السلطة الفلسطينية مع الجانب الصهيوني لم تنقطع حتى اللحظة، فصائب عريقات يتفاوض مع تسيبي ليفني في لقاءات ثلاثية برعاية المندوب الأمريكي الصهيوني مارتن إنديك، أو في لقاءات ثنائية بين الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي"! ذلك يعني وفق ما يقول البعض من المراقبين إن تهديدات الرئيس عباس بقطع المفاوضات ليست أكثر من زوبعة في فنجان، وستعود المياه إلى مجاريها في استنئاف المفاوضات، وبخاصة أن أنباءً كثيرة تحدثت عن مفاوضات سرية مع الكيان الصهيوني تجري بعيداً عن التصريحات الإعلامية. المطلوب من السلطة إذا كانت جادة في عدم التفاوض، أن تقطع المفاوضات مرّةً واحدة وإلى الأبد، وإلا فالأمر ليس أكثر من مسخرة، وفي ذلك إضعاف كبير للجانب الفلسطيني .
على صعيد آخر، تسربت أنباء كثيرة عن اتفاقية الإطار التي كان يحملها جون كيري ليعرضها على الفلسطينيين و"الإسرائيليين" قبل الموقف الفلسطيني الأخير بوقف المفاوضات. جوهر هذه الاتفاقية، اقتراحات سبق للوزير الأمريكي أن عرضها على عباس، وكان عريقات قد وصفها "بالجنونية" لأنها تعكس وجهة النظر "الإسرائيلية" جملةً وتفصيلاً. جوهر اتفاقية كيري يحمل المقترحات التالية: إلغاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين ويتم تثبيتهم في الأماكن التي يعيشون فيها. إلغاء أية اتفاقيات أو قرارات سابقة بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحقوق الفلسطينية، وقرارات مجلس الأمن، وقرارات الجامعة العربية ذات الصلة. يستحق اللاجئون الفلسطينيون تعويضاً عن ممتلكاتهم شريطة أن ينطبق ذلك على "الإسرائيليين" (المهجّرين) من الدول العربية كالعراق، ومصر، واليمن وغيرها. عاصمة الدولة الفلسطينية في منطقة ضواحي القدس (بيت حنينا)، لذلك جاء النص على أن عاصمة الدولة الفلسطينية ليس القدس وإنما في القدس. منطقة الغور الفلسطينية لا تتبع الدولة الفلسطينية حالياً بل تخضع لترتيبات أمنية جوهرها تواجد: قوات "إسرائيلية" فيها مدة عشر سنوات، على أن تكون خاضعة للتفاوض بعد مضي هذه الفترة. يعترف الفلسطينيون "بيهودية دولة إسرائيل". إبقاء القدس موحدة. احتفاظ "إسرائيل" بالتجمعات الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة مع تبادل للأراضي بينها وبين "إسرائيل" شريطة وجود سيطرة "إسرائيلية" على حدود هذه الدولة وأجوائها، كما أن للقوات "الإسرائيلية" الحق في الدخول والمطاردة في أراضي هذه الدولة .
هذه هي اتفاقية الإطار التي عرضها كيري على الجانب الفلسطيني وهي تعبّر عن وجهة نظر "إسرائيل" جملةً وتفصيلاً. بل الأدق تعبيراً أنها تقف على يمين الجانب "الإسرائيلي". رغم ذلك فإن السلطة الفلسطينية مازالت تؤمن بوساطة الولايات المتحدة، بل ربما تذهب في أحيان كثيرة إلى اعتبارها وسيطاً نزيهاً؟! ثبت قطعاً أن الولايات المتحدة تُعتبر طرفاً في الصراع وليس وسيطاً، وآن الآوان للسلطة التخلص من وهم الوساطة الأمريكية، فهي في صميمها ناقل لوجهة النظر الصهيونية، وهي تصطف إلى جانب الحليفة "إسرائيل". وأي ممارسة لضغوطات أمريكية تكون على الجانب الفلسطيني وليس على الجانب الصهيوني .
على صعيد آخر، بدأت الدولة الصهيونية سلسلة عقوبات على الفلسطينيين بعد أن قامت السلطة بتوقيع 15 اتفاقية مع منظمات تابعة للأمم المتحدة من أجل الدخول فيها، منها معاهدة جنيف. العقوبات الصهيونية بدأت بتجميد تحويل أموال الضرائب الفلسطينية التي تجنيها "إسرائيل" والبالغة نحو 115 مليون دولار سنوياً. الأمر الذي سيؤثر سلباً على ميزانية السلطة ودفع رواتب الموظفين.
كما أن العقوبات ستطال مجالات المياه والكهرباء والوقود، وحركة التنقل للفلسطينيين على الطرق الخارجية والداخلية وبخاصة في المنطقة (ج) التي تتولى الإشراف الأمني عليها "إسرائيل". من العقوبات أيضاً: ارتفاع وتيرة الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والاعتقالات والاغتيالات وغيرها .
في السياق يمكن القول، إن هذه العقوبات الصهيونية مطبقة حتى في ظل المفاوضات وفي ظل التجميد الفلسطيني لقرارات الانضمام إلى المنظمات الدولية، فالاستيطان فاق (في ظل المفاوضات) هذا العام السنة الماضية بنسبة 123% ثم الاغتيالات الصهيونية، والاعتقالات للفلسطينيين ارتفعت وتيرتها هي الأخرى.
كذلك هدم المنازل وتقييد حركة مرور الفلسطينيين على الحواجز "الإسرائيلية". علينا ألا ننسى أن الكيان الصهيوني لايزال يحاصر قطاع غزة لسنوات طويلة على التوالي. المقصود القول: إن هذه العقوبات مطبقة على شعبنا طالما ظل الاحتلال قائماً. فأين هو الجديد؟! من ناحية ثانية فقد جمّدت "إسرائيل" تحويل أموال الضرائب الفلسطينية من قبل عدة مرات فهذا ليس أيضاً بجديد هذا أولاً .
بإمكان السلطة الفلسطينية الرد على هذه العقوبات من خلال التمسك بالثوابت الفلسطينية، وإلغاء التنسيق الأمني مع العدو، إلغاء اتفاق باريس الاقتصادي، والتراجع عن كافة التنازلات التي قدمتها السلطة مجاناً للكيان الصهيوني. وتظل قمة الردود هي إلغاء اتفاقيات أوسلو وما نتج عنها من تبعات ولو أدّى ذلك إلى حل السلطة نفسها، وعودة الصراع إلى مربعه الأول! وليمارس الاحتلال دوره مباشرةً وليس بطريق غير مباشر، كما يمارسه حالياً.
اتفاقيات أوسلو هي أساس البلاء ويتوجب إلغاؤها. لعلني استحضر ما سبق وأن قاله الراحل المفكر الفلسطيني إدوار سعيد عنها "إن الحفل الاستعراضي المبتذل الذي عقده البيت الأبيض إنما يواري مؤقتاً هول جسامة الاستسلام الفلسطيني. لذا دعونا نسمي الاتفاق باسمه الحقيقي: صك الاستسلام الفلسطيني، معاهدة فرساي الفلسطينية