د. عدنان أبو عامر
تعتبر مسألة العلاقات بين السياسة والجيش من المسائل الشائكة في أي دولة من المفترض أن تكون فيها المؤسسة العسكرية ذراعاً للسلطة التنفيذية، تخضع لقرارات المستوى السياسي، فالجيش وأجهزة الأمن تنفذ سياسة يرسمها ويقرها منتخبو الجمهور، ومراقبة الجيش وقوات الأمن، كالشرطة وأجهزة المخابرات، مسألة مركبة وشائكة بشكل خاص، لأن الجيش يتمتع بمكانة خاصة، تنبثق عن أهمية قضية الأمن، وعن كونه خدمة أساسية للمواطن إضافة لاستقلالية الجيش "البيروقراطية".
في "إسرائيل" تنبع المشكلة من المكانة الرفيعة التي تحتلها المؤسسة العسكرية، وهي نتاج النظرية الأمنية القائلة بأن "الدولة تواجه تهديداً وجودياً"، وقد صدرت كتب عديدة مؤخراً تناقش القضية التي حازت في السنوات الأخيرة على مساحة مهمة في النقاشات السياسية والعسكرية، وهي طبيعة العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل.
وتحاول هذه الإصدارات تقديم نماذج على الاحتكاكات الدائمة بين المستويين في عدد من القرارات المفصلية كالانتفاضة الثانية، حرب لبنان الثانية، إقرار الموازنة العسكرية، الانسحاب أحادي الجانب، ويكشف معدوها عن ثغرات "قاتلة" في عملية اتخاذ القرارات، وما أثير من تبادل اتهامات بين قادة المستويين في المفاصل التاريخية الهامة، وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا للدولة، التي تعتمد بالكلية على هذه المؤسسة العسكرية.
* علاقات العسكر بالساسة
"إسرائيل ليست دولة لها جيش يحميها، بل إن هناك جيش وله دولة"، هكذا يصل الباحثون إلى القناعة الأساسية السائدة في الدولة، في ضوء أن مستوى الثقل الذي يشكله المستوى العسكري يصل أضعافا مضاعفة لما تشكله القطاعات المدنية والسياسية والحزبية، وما يرتبط بذلك من تأثيرات حتمية للجانب العسكري على طبيعة الحياة السياسية في إسرائيل، والعلاقات الحزبية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية.
بصورة أو بأخرى يصل المراقب إلى حقيقة مفادها أن المستوى العسكري، وتحديدا "جيش الدفاع الإسرائيلي"، لا يحمي فقط الجانب المدني في الدولة، بل إنه يساهم في صياغة الصورة النمطية لإسرائيل، وطبيعة الحياة التي يحياها مواطنوها!
علماً بأن ذلك يرتبط بالحديث عن ظاهرة إسرائيلية فريدة أخذت في الظهور مع أواخر عقد الأربعينات من القرن العشرين، وهي أعوام قياد دولة إسرائيل، أطلق عليها مصطلح "ثقافة الأمن" الإسرائيلية، وحتى كتابة هذه السطور ما زالت تتكون هذه الثقافة من مركبات أساسية، وأجزاء مفصلية، تقع في صلبها طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بين الجانبين السياسي والعسكري.
وقد بات ترسيخ هذه الثقافة مع مرور السنين والعقود إلى قيام ما يسمى "عسكرة المجتمع" في إسرائيل، رغم الخلاف الذي وقع في مظاهر هذه العسكرة، وبين من يعتبرها ميزة للمجتمع الإسرائيلي، وآخر اعتبرها نقطة ضعف لمجتمع يرى نفسه امتدادا للمجتمعات المدنية الغربية.
أكثر من ذلك، فإن غلبة الطابع العسكري على المجتمع الإسرائيلي، بات يترك بصماته الميدانية على طبيعة القرارات التي يتخذها المستوى السياسي من جهة، ومن جهة أخرى أضحى لهذا الطابع المؤثر الأكبر على كيفية صياغة النظريات الأمنية تجاه أعداء الدولة.
وفي ذات الوقت، فإن هيمنة ظاهرة "عسكرة المجتمع" جعلت لجوء إسرائيل للمفاوضات السياسية، والوصول لحلول توفيقية مع الأطراف المعادية، مؤشر ضعف وتراجع، محظور على إسرائيل الاقتراب منها!
* المجتمع الحربي
هذا الإجماع في المجتمع الإسرائيلي النابع من شيوع "ثقافة الأمن"، أوجد ما يطلق عليه الباحثون "الهوية الفاصلة" بين الجيش والدولة، وتفسير هذه العبارة يعني: بدون جيش لا معنى لقيام الدولة، وبدون جيش قوي، يتعاظم ويتقوى، لن تستطيع الدولة على البقاء طويلا!
وتعني أيضا أن تكون إسرائيل متأهبة على مدار الساعة، ومستعدة لأي طارئ أمني، بحيث يمكن لها أن تخرج للحرب متى قررت ذلك، وهو ما يلائم طبيعة "المجتمع الحربي" في إسرائيل الذي يمنح أفضلية عليا للقوة العسكرية.
وفي أعقاب هذه القناعات السائدة، تولدت في إسرائيل مفاهيم جديدة تشير بمجملها إلى حقيقة أن المجتمع ينبغي له أن يمنح الجيش كل ما أوتي من قوة وإمكانات، لأن في ذلك حيلولة لـ"دمار المجتمع الإسرائيلي"، وجاء ذلك على ألسنة ساسة وعسكر كثر في الدولة، وكلها منحت الجيش الأولوية المطلقة.
العنصر الأكثر أهمية في هذه الجزئية، ولا يبدو أنها تلفت نظر القارئ وصانع القرار العربي، أن الجيش الإسرائيلي طوال ستة عقود ماضية من تاريخه، لم يشهد "تدخلاً" للمؤسسات السياسية والحزبية في عمله، بما في ذلك الحكومة والكنيست!
وبالتالي فقد نعمت المؤسسة الأمنية والجيش بـ"استقلالية مطلقة"، بما في ذلك التدخل في حجمه، موازنته، خططه القتالية، وتاريخ الحروب الإسرائيلية العربية، تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن المخططات الحربية، والتفصيلات القتالية، كانت تقر أساسا في الهيئة العامة للأركان، ومن ثم تصل إلى مقاعد الحكومة، بعد أن يتم استكمال الأفكار العملياتية، والسيناريوهات الميدانية.
وبالتالي نخلص إلى نتيجة تشير بصورة أو بأخرى إلى أن المسألة العملياتية من قبل الجيش الإسرائيلي باتت تسبق بالعادة التفكير السياسي لدى الحكومة، ما أنتج حقيقة تؤكد أن الضغط الذي تمارسه هيئة الأركان، منح الجيش فرصة أن يقرر سلفاً ما الذي يريده، ومن ثم إبلاغ الحكومة بقراره.
وتعج وسائل الإعلام الإسرائيلية بين الحين والآخر بمقابلات مع بعض الوزراء السابقين والحاليين، يتحدثون فيها "بخجل" عن أنهم يجدون أنفسهم بالعادة مسئولين عن عمليات الجيش، بالرغم من عدم تلقيهم تقريرا مسبقا عنها، ولم يجر حولها بحث معمق، وأحيانا كثيرة يضطرون للاطلاع على تفاصيل العملية العسكرية من الصحافة!
* لا لانتقاد الجيش
يمتلك الجيش ثقلا لا يمكن إنكاره في طبيعة إقرار الموازنة العسكرية، حجمها، مجالاتها، وفي ضوء أن مجالات حكومية أخرى يمكن لها أن تخفض من سقف موازناتها المالية السنوية.
ورغم ان وزارة المالية الإسرائيلية هي الجهة الوحيدة التي يمكن ان تشكل تحديا حقيقيا للجيش، إلا أن الأخير يمتلك وزنا ثقيلا أمام الجهات الحكومية الأكثر أهمية، كـ"الكابينت"، المجلس الوزاري المصغر، حيث يقدم له تلخيصا وموجزا بأهم الاحتياجات المالية، والمطالب التي تقدمها أوساط نافذة أمام الوزراء، الذين لا يجدون بدا من الموافقة عليها.
وفي ضوء أن الجيش وجد نفسه الجسم الوحيد القادر على إنقاذ إسرائيل من أي مخاطر جدية، وتهديدات بالإبادة من أعدائها، فقد بات المس به وانتقاده، مساً وتحريضاً على أمن الدولة ذاتها، بحيث غدا الجيش فوق كل انتقاد، وخارج كل نقاش! وهو أمر فيه مس بحرية التعبير، وتهديد للحريات الأساسية التي تسمح بانتقاد هنا، ورفض لسلوك هناك.
وهو ما حول الجيش في نهاية الأمر إلى ما يسمى"البقرة المقدسة"، المحظور إثارة أي احتجاجات على سلوكه وإدارته للشؤون الأمنية والعسكرية، وما يعني أن إسرائيل، أدخلت إلى قوائم قواميسها السياسية مفردات الممنوع والمسموح، بحيث اقتربت من دول العالم الثالث.
أكثر من ذلك، فإن طبيعة أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي تحظى بحرية ملحوظة، تجاه الجيش وأدائه العسكري، تشير إلى حقيقة قد تفاجئ الكثيرين: فهي غير مسموح لها أن تتساءل عن دور الجيش في المجتمع، وبالتالي فإن إسرائيل انقلبت لتتحول إلى دولة عسكرية، دون أن يمسك الجيش بمقاليد السلطة فعليا، بحيث أصبحت العسكرة جزءا أساسيا ومكونا رئيسا في سياسة الزعامة الإسرائيلية.
أخيرا، نصل إلى خلاصة مفادها أن إسرائيل التي يسيطر عليها الجيش فعليا اليوم، وينحصر قرارها الحربي بيد رئيس هيئة الأركان وضباطه الكبار فقط، تبدو مضطرة، لاسيما في أعقاب حرب لبنان الثانية، ولاحقا في عملية الرصاص المسكوب في غزة، لإجراء تغيير جوهري في موازين القوى السائدة بين الضباط العسكريين والساسة المنتخبين، بحيث وصلت لحظة الحقيقة التي يجب فيها على إسرائيل، أن تعلن أنها "دولة لها جيش، وليس جيش وله دولة"!