الباحث في الشؤون الاستراتيجية
يبدأ كل عمل عسكري دوما مهما صغر أو كبر بالتدابير الميدانية، التي يمثل العقل البشري رائدا من روادها، فلا استراتيجية قتالية قديما وحديثا إلا وتنهتح عملا دماغيا فرديا كان أو جماعيا منذ أن كتب صن تزو كتابه القديم منذ ثلاثة آلاف عام أو يزيد الذي سماه (فن الحرب ) . وهو الكتاب الذي قامت عليه الكثير من العقائد العسكرية الحديثة .
مرورا باستراتيجيات خالد بن الوليد – رضي الله عنه في التدابير القتالية، والعمليات العسكرية التي تجاوزت التاريخ والجغرافيا، فمثلت مدرسة قتالية رائدة من مدارس البشرية.
حتى كانت حركات القتال المتقدمة للفرنسي (نابليون بونابرت) في أو القرن التاسع عشر الميلادي، الذي استطاع أن يتقن العمل العقلي المتقدم في أغلب معاركه .
ثم ما رسمه في التاريخ المعاصر القائد البريطاني المارشال ( مونتجمري )في انتصاراته التي سجلها على (رومل) الألماني في نهايات الحرب العالمية في عمليات تنبي في مجملها على استراتيجية ( التقرب غير المباشر) التي خطها المنظر العسكري (ليدل هارت) في كتابه الاستراتيجية العسكرية، وهي قائمة بالأصل على العمل العقلي المتقدم في ميادين القتال.
2
المقاومة الفلسطينية وعبر الصراع الممتد مع الكيان الصهيوني في عقود من الزمن منذ أن احتل الكيان الصهيوني فلسطين استخدمت وبشكل فائق وعبقري مبدأ العقل في مقابل القوة المتفوقة مستخدمة بذلك استراتيجية ما يسمى (البرغوث والكلب ) وهو تعبير يستخدم للدلالة على (حرب العصابات)؛ حيث العمل على ضرب العدو في أماكن متفرقة، وبكل مرة في أسلوب جديد يفاجئ العدو ويربك حساباته الأمنية.
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية من خلال انتهاج أسلوب التنوع في العمليات القتالية أن تغير معالم الصراع مع الكيان الصهيوني، فمن استخدام السلاح الأبيض في عمليات الطعن داخل الكيان الصهيوني، وذلك في بداية التسعينيات وحتى الانتقال إلى العمل العسكري المسلح عبر الاشتباكات في الأسلحة الخفيفة التي كان تحصل عليها المقاومة الفلسطينية عبر جهود كبيرة من رشاش (الكارلو غستاف) القديم وحتى الانتقال إلى بنادق (إم 16) التي كان يغنمها المقاتلون من الجنود الصهاينة مثل عملية غاني طال في خانيونس بداية عام 1993 م .
حتى تطور الأمر بعد ذلك على يد المهندس الشهيد (يحيى عياش) – رحمه الله - إلى العمليات الاستشهادية التي كانت تضرب في قلب الكيان الصهيوني، في منتصف التسعينيات؛ وهو ما اشتهر بحرب الباصات والتي أربكت كل الحسابات العسكرية وقلبت موازين الرعب لصالح المقاومة الفلسطينية؛ حتى قال (رابين) في كلمات يائسة: " ماذا أفعل أمام شاب يريد أن يموت" مما اضطره للانسحاب من غزة عام 1994م .
وخلال كل تلك الحقب التاريخية لم تكن تخلو من عمليا خطف الجنود، وذلك ابتداءا من العام 1985م التي قامت بها الجبهة الشعبية – القيادة العامة- وحتى العام الحالي 2014م .
وبالطبع لم يكن يخلو كل ما سبق من تقدم العقل المقاوم للمقاتلين الفلسطينيين وهو ما كان يمثل صراع الأدمغة مع الكيان الصهيوني.
3
على العموم. فإن عملية الخليل التي أعلن عنها صباح الجمعة 13 – 6 – 2014م كانت تمثل بامتياز صراع الأدمغة التي تديره المقاومة الفلسطينية ضد المنظومة العسكرية الصهيونية.
إن خطف ثلاثة صهاينة من المغتصبين وهم في سن الشباب؛ حيث تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة إلى التاسعة عشرة، والسيطرة عليهم في سيارة لا تتسع إلا لخمسة أشخاص، وهذا يعني أن عدد الخاطفين الميدانيين على ما يبدو لا يتجاوز الاثنين وهذا ما أعلن عنه الكيان الصهيوني بتصريحاته.
وتنفيذ تلك العملية في منطقة غوش عتسيون التي تضم حوالي ثلاثة وعشرين مجمعا استيطانيا وعسكريا، وهي تمتلأ بالجنود والمراقبة الأمنية المستمرة، وهي تلك المنطقة التي كانت القوات العسكرية الصهيونية تنفذ تدريبات قتالية فيها والاختفاء والتمويه الدقيق.
كل ذلك استدعى أحد المحللين العسكريين الصهاينة؛ ليعبر عن القدرة العقلية للمقاومة الفلسطينية بأنها: عملية شاذة أي أنها خرجت عن المألوف .
وبالطبع فنحن ما زلنا أمام مفاجآت للمقاومة الفلسطينية، لن تنتهي عند هذه العملية المتفوقة؛ لتمثل أرفع الحقب العسكرية في صراع الأدمغة .