بات أمرًا واضحًا أن كل ما يتنفس الهواء على أرض غزة ينتظر أن يعانقه قذيفة او صاروخ إسرائيلي يسقط عليه، فتلك الهجمة الشرسة التي دخلت في يومها السادس عشر لم ترحم طفلا ولا امرأة ولا حتى ذوي الاحتياجات الخاصة.
أنهى محمد عوض مطر من ذوي الاحتياجات الخاصة من سقاية ضريح أخيه، المنتصف في مقبرة بيت لاهيا شمال القطاع، وعلى بوابتها الجنوبية في طريق عودته لمنزله، كان جسده على موعد مع صاروخ ألقته طائرة بدون طيار لتمزقه إربًا.
محمد الملقب بين أوساط حيه في مخيم جباليا بـ "الشرش" كان مع كل نهاية أسبوع وتحديدًا عصر يوم الجمعة، يذهب إلى ضريح أخيه ماجد الذي استشهد في صيف 2007 برصاص الاحتلال شرق غزة، يسقيه بالماء ويضع الزهور عليه.
محمد (38عامًا) كان متعلقًا جدًا بماجد قبل استشهاده، فالأخير كان يرعاه ويتابعه دائما، وبعد ان سكن في باطن الأرض برصاصة لعينة في صدره قبل سبع سنوات، ظل محمد طوال تلك السنوات يزوره ويحتضن ترابه في تلك المقبرة، ولكن مع ذلك الصاروخ الذي أجهز على محمد جعله يروى قبر أخيه بدمه بدلًا من الماء.
لم يكن "الشرش" الأول من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي قتلته (إسرائيل)، فمع الأذان الأول من فجر اليوم الرابع من العدوان على غزة ارتكب الاحتلال مجزرة بحق أربعة فتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة بعدما أسقطت طائرة حربية من نوع F16 صاروخين على جمعية مبرة فلسطين للمعاقين في بيت لاهيا.
فتحت العائلة في داخل منزل الشهيد بيت عزاء صغير، لاستقبال أهالي الحي المعزيين، سيما أن طائرات الاحتلال المتلبدة في السماء بأنواعها كافة لا تفرق بين بيت عزاء ولا غيره.
ولأن الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه الثالث على غزة يرتكب أبشع المجازر بحق الأبرياء، ويدمر منازلهم فوق رؤوسهم، فمذبحة حي الشجاعية البشعة التي سقط بها أكثر من 90 شهيدًا ومئات الإصابات، ومجزرة عائلة أبو جامع في خانيونس وعائلة جراد في بيت حانون وغيرها من المجازر خير دليل على همجية (إسرائيل).
التقينا بـ"أبو عوض" الأخ الأكبر لمحمد الذي طوال حديثنا معه كان صابرًا على فقدان أخيه، ولكن ملامح وجهه لم تستطع إخفاء آلم الفراق، قائلًا: "لا نعلم ما ذنب محمد(..) كان مسالمًا يحبه من حوله".
حاول أبو عوض (45 عامًا) منع أخيه من الذهاب لتلك المقبرة، لكن كانت تقابله عبارة محمد التي رددها له: "ماجد بستنا بده مية لازم أروحله ليزعل مني".
وكما عرجنا سابقًا فإن الشهيد محمد كان شخصية محبوبة من جميع سكان الحي، وكان الجميع يتعاطف معه ويساعده، علمًا أنه كان يشارك في جميع حفلات الزواج بمنطقته.
ومن بين المعزيين سعيد أبو عواد المتزوج حديثًا، يقول: "لا أستطيع تصديق خبر استشهاد محمد(..) كان طيبًا، لقد شاركني بفرحة زواجي".
طلبنا من أبو عوض أن نجري مقابلة مع والدته، ولكن ما منعنا من مقابلتها، مكوثها في المستشفى لدخولها في غيبوبة من أسبوعين اثر اشتداد المرض عليها.
الأم الستينية تمكث على سرير المرض، لا تعلم حتى صياغة هذا التقرير أن ابنها محمد صعدت روحه إلى بارئها، يضيف أبو عوض: "أمي كانت متعلقة كثير في محمد، لا أعلم ماذا سأخبرها عندما تفيق من غيبوبتها".
بسمة محمد التي رسمها على وجوه أفراد عائلته وكل من عايشه خلال حركاته العفوية، ستختفي تدريجًيا، لآن دمعات الفراق وألمه تمحو كل مواطن الابتسامة.