تحدثنا في الحلقة السابقة عن بيئات المعركة، وقلنا إنها بدأت بأسر الجنود المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل، وسرعان ما تدحرجت إلى قطاع غزة، بعد حرب "بلا هوادة" شنها الجيش الإسرائيلي على الضفة المحتلة، من مداهمات وحملات اعتقال.
جبهة غزة، كانت أكثر ما يقلق إسرائيل بل وتحسب لها ألف حساب، خصوصا إذا ما علمنا أن (تل أبيب) كانت تعرف أن حركة حماس تملك أنفاقا تحت الأرض، وأنها قادرة على قصف ما بعد مدينة حيفا وصولا إلى بلدة القنيطرة على بُعد 260 كم.
إسرائيل كانت تدير نقاشا عميقا حول الطريقة التي ستضرب بها غزة، خاصة أن الفصائل الفلسطينية في القطاع كانت قد قررت أن تتناغم مع حركة التمرد ضد الاستيطان في الضفة، التي باتت مرتعا للمستوطنين وجرائمهم ضد الفلسطينيين، وهذه الجرأة مردُّها أن المقاومة مكبلة هناك.
نتنياهو كان يعتقد أن الفصائل غير معنية بالتصعيد، لكن الصواريخ أخذت تتساقط على البلدات الإسرائيلية المحتلة، ولم تجر الرياح وفق ما تشتهيه السفن الإسرائيلية، فراح المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينيت) يناقش كيفية إدارة الصراع في غزة، وتساقط القذائف يزداد كثافة.
مخطئ من يظن أن التصعيد لم يكن مخططا له، حيث كان القصف على غزة مع بداية الحرب مركزا، وأخذ اللهب يرتفع مع مرور الأيام، حتى أن جيش الاحتلال استدعى في اليوم الرابع للحرب، قوات احتياط قوامها من 50 إلى 86 ألف جندي، احتشدوا على حدود القطاع.
كرة اللهب صارت تتدحرج، وتدحرجت معها القوة الصاروخية من غزة، وظهرت معها قدرة المقاومة على إدارة الأهداف.
الكل كان يظن في الأيام الأولى أن المعركة محدودة، وأن إمكانية التداعي إلى تهدئة "قائمة"، وظل الإسرائيلي يردد رواية أن "الأمور تحت السيطرة"، لكن الظروف سرعان ما تعقدت، وبدأنا نسمع طلبات فتح الملاجئ، واختباء مليون إسرائيلي فيها، وتجاوزت مسافة القصف من غزة مساحة الـ 120 كم في الأيام الخمسة الأولى من المعركة. وعندما بدأ الحديث عن التجنيد في الجيش، أخذ الاسرائيلي يشعر بأن سقف المعركة مرتفع.
ارتبك الإعلام الإسرائيلي ونشرت الصحف العبرية أن توجهات المعركة ليست معروفة، وأنها ربما تتدحرج بهدف احتلال قطاع غزة، فاعتمد جيش الاحتلال على سلاح الجو، وأخذ يمهد لمعركة برية بهدف إجبار المقاومة على التراجع عن مواقفها، وتحدثت إسرائيل عن 6 آلاف هدف قصفته، بقوة نارية تضاعفت خمس مرات عما جرى في عدوان 2008، الذي اعتبر حينها "أكثر الحروب شراسة".
كان واضحا خلال الحرب غياب طائرات الأباتشي، التي يعتمد عليها الجيش الإسرائيلي في تمشيط الميدان، لعلمه أن المقاومة بغزة بحوزتها ما تسقط به الطيران المروحي، إضافة إلى أن الطيران الحربي صار يحلق على ارتفاعات عالية، خشية إسقاطه أيضا.
إسرائيل كانت تراهن على أن الجبهة الداخلية ستتمرد على المقاومة إن شعرت أنها خاسرة، ولامسنا ذلك من خلال رسائل وجهتها القنوات العبرية إلى أهل غزة، مفادها أن إسرائيل تسعى إلى السلام ولا تريد حربا، إلى جانب كثير من رسائل التحريض. لكن، غاب عنها أن المواطن في غزة "ماركة أصلية"، تعوّد على الاستئساد، وأنه وعد بأن يضحي بنفسه لأجل المقاومة ورجالها، ولا نغفل كذلك الحالة التعبوية في غزة، المحرّضة على حب الجهاد في سبيل الله.
على العكس تماما، أصبح لدينا في المجتمع الفلسطيني موقفا مغايرا من السلطة الفلسطينية في الضفة، التي يرى كثيرون أن موقفها يتماهى مع المشروع الإسرائيلي، ويقف في وجه أي انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال.
اليوم، نتحدث عن وفد فلسطيني موحد، ووعي كبير بين الفصائل الفلسطينية. وفي الميدان، صارت المقاومة تدير عملياتها دون ظهور مسلحيها، حتى وصل الاحتلال إلى مرحلة اعترف فيها بأنه "يدير المعركة بطريقة عمياء"، وتفاجأ من إدارة حماس للمعركة، التي قال إنه "ذُهل منها"، وهي ليست حالة مألوفة أن يمتدح الاحتلال خصمه.
إن الحصار الإسرائيلي، والحملة الإعلامية المصرية الشعواء ضد حركة حماس، لم يمنع الفلسطيني من إدارة استراتيجية مقاومة مبدعة تتلخص في ثلاثة عناوين: الأول: المقاومة الواعية المتمثلة بهيئة الأركان، التي أدارة المعركة باقتدار، والثانية: بقة النار التي لم تكن صاروخية بحتة، والثالثة: بناء المجتمع المقاوم والجبهة الداخلية الموحدة أثناء الحرب، إلى جانب الالتفاف الشعبي الكبير حولها.
للاستماع للحلقة الثانية اضغط هنا