تدور معركة صامتة في كواليس السياسة الفلسطينية حول خلافة الرئيس محمود عباس، وترافقها اجتهادات لوضع مقارباتٍ، تهدف إلى فهم اتجاه التأثيرات التي ستترتب على ذلك ومداها وعمقها، ومن بين الاحتمالات نشوء وضع جديد بخروج رئاسة السلطة من دائرة قيادات منظمة التحرير وحركة فتح والقوى الفلسطينية الكبرى، بينما يحضر سؤال عن دور من المرجح، على نطاق واسع، أن يلعبه رئيس وزراء السلطة السابق، سلام فياض.
تفاجأ كثيرون بالصعود السريع لمكانة محمود عباس، بتوليه رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2004، بعد وفاة الراحل ياسر عرفات، ومن ثم انتخابه رئيساً للسلطة في يناير/ كانون ثاني 2005، ومردّ المفاجأة، حينها، يرجع إلى أن غالبية المراقبين والمحللين، وحتى نسبة كبيرة من المشتغلين المحترفين في العمل السياسي الفلسطيني، تعاملوا مع عباس بأنه بات ورقة محروقة بخروجه مستقيلاً من منصب رئاسة الوزراء في أكتوبر/ تشرين أول 2003، بسبب خلافاته مع عرفات على النفوذ والصلاحيات والرؤية السياسية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه سبق تكليف عباس بمهمة رئاسة الوزراء، في مارس/ آذار 2003، غداة اعتكافه عن العمل عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولم يعد إلى مزاولة مهامه، إلا بعد قبول عرفات الفصل بين رئاستي السلطة وحكومتها، تحت ضغوط أميركية وأوروبية غربية، ضمن رؤية "الرباعية الدولية" لإعادة هيكلة أوضاع المؤسسات القيادية والتنفيذية العليا في السلطة الفلسطينية، لكن عباس لم يستمر في منصبه كأول رئيس لوزراء السلطة سوى 130 يوماً، فقد خرجت مظاهرات حاشدة ضده في رام الله ومدن الضفة الفلسطينية الأخرى، تتهمه بأنه كرزاي فلسطين، نسبة إلى الرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي.
جاء ذلك على خلفية ما اعتبر، حينذاك، تقديم تنازلات سياسية مست الثوابت الوطنية للفلسطينيين، في بيان سياسي أدلى به عباس في قمة العقبة، التي جمعت الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، وملك الأردن، عبد الله الثاني، ومحمود عباس، في 4 يونيو/ حزيران 2003. إذ وصم عباس المقاومة المسلحة بالإرهاب، وتعهد بأن تعمل حكومته على إنهائها، متجاهلاً الإشارة إلى مطلب وقف الاستيطان وملف اللاجئين الفلسطينيين، في حين أبدى تفهمه ما أسماها "عذابات اليهود على مر التاريخ..".
أهمية الإشارة تكمن في أن هناك أوجه شبه بين استقالة سلام فياض من رئاسة الحكومة في سبتمبر/ أيلول 2012، واستقالة محمود عباس في نوفمبر/ تشرين ثاني 2003، من حيث النقمة والاحتجاجات الشعبية الغاضبة التي سبقت الاستقالتين. وفي الذاكرة مشهد فياض، وهو يحاول شق صفوف المتظاهرين ضده في رام الله لتقديم استقالته، ومشهد مماثل حين شق محمود عباس طريقه ليقدم استقالته أمام المجلس التشريعي، على وقع المظاهرات المنددة به، والمطالبة برحيله ورحيل حكومته. مع ترجيح كفة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الحيثيات المباشرة للاحتجاجات ضد فياض، الذي استمر بعدها نحو سبعة أشهر رئيس حكومة تصريف أعمال.
الصراع على الصلاحيات والتوجهات تصدَّر الخلافات بين عرفات وعباس، وتصدَّر لاحقاً الخلافات بين عباس وفياض، فوفقاً لما أكدته مصادر رفيعة المستوى في حركة فتح، كان قبول فياض استقالة وزير المالية، نبيل قسيس، خلافاً لما أراده عباس، القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بينهما، وتفاعلت الخلافات مع استقالة فياض باتهامه بأنه يحرض على السلطة الفلسطينية، ويسعى إلى "الانقلاب على الشرعية" مع قادة آخرين من داخل "فتح" وخارجها، على الرغم من أن مصدر هذا الاتهام تسريبات إسرائيلية.
ومنذ استقالته، لجأ فياض إلى ما يشبه الاعتكاف عن مزاولة دور سياسي علني، واكتفى بالنشاط من خلال مؤسسة "فلسطين الغد"، التي يرأسها ويديرها، وهي مؤسسة تنموية تسعى، حسب برنامجها المعلن، "إلى توفير متطلبات التنمية المستدامة وتحسين نوعية الخدمات المقدمة في المناطق المهمشة والأكثر تضرراً، وخصوصاً في القدس الشرقية وقطاع غزة والمناطق المصنفة (ج).. "إلا إن اتساع نطاق نشاطها، أخيراً، وحجم قدراتها المالية أثار ملاحظات حذرة حول مصادر التمويل وأهدافه.
"
كان قبول فياض استقالة وزير المالية، نبيل قسيس، خلافاً لما أراده عباس، القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بينهما
"
الأمر الذي يطرح أسئلة مهمة، في خلاصتها، بخصوص الجهات الداعمة والراعية لفياض، والأهداف التي تتوخاها من وراء تمكين مؤسسه -"فلسطين الغد"- مادياً، بحيث تنجز مشاريع مهمة وحيوية بالشراكة مؤسسات اقتصادية ومنظمات مجتمع محلي. وهذا يفسر ظاهرياً أسباب تكثيف كوادر حركة فتح، وجهات في دوائر منظمة التحرير هجماتهم أخيراً على شخص سلام فياض ومؤسسته التنموية، بيد أن المستويات القيادية العليا في "فتح" ومنظمة التحرير تدرك أن المشكلة تكمن في طموحات فياض السياسية، وما يتمتع به من ثقل حاضنة دولية وإقليمية، يمكن أن يجعل منه "الحصان الأسود" في أي انتخابات رئاسية مستقبلاً.
ويؤكد ذلك اغتنام فياض فرصة إلقاء محاضرة أخيراً أمام "مجلس أتلانتك" في واشنطن، (مؤسسة بحثية غير حزبية مؤثرة في مجال الشؤون الدولية)، كي يعرض رؤية سياسية متكاملة للخروج من "الحلقة المفرغة" للعملية السياسية- التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على حد وصفه، أدرج فيها أفكاراً وملاحظات كثيرة مثيرة للجدل، إلا أنها تقدمه مشروع مرشح قوي لرئاسة السلطة الفلسطينية.
وقد شدد فياض على التزامه القوي بمبدأ حل الدولتين، لكنه عاب على عملية المفاوضات "تآكل مرجعياتها" المتواصل منذ "أوسلو"، ما يستلزم عملية تصويب أصبحت واجبة. وللخروج من "الحلقة المفرغة"، يرى فياض، في محاضرته، أو بالأحرى رؤيته السياسية، أن المدخل يتعلق بالإجابة على سؤالين: يتصل الأول منهما بمدى ما إذا كان التمثيل الفلسطيني لا يزال ملائماً أو صحيحاً، سواء في سياق متطلبات إطار أوسلو أو متطلبات إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية. ويتعلق الثاني بما إذا كان هذا الإطار (إطار أوسلو) لا يزال قائماً بما يعتد به من حيث المبدأ، خصوصاً وأن الجدول الزمني الذي صمم على أساسه قد انتهى، منذ وقت طويل. الإجابة على السؤالين السابقين، كما يقول: النفي.
في الإجابة على السؤال الأول، يعتقد فياض أن فشل مفاوضات أوسلو أضعفت المكانة التمثيلية لمنظمة التحرير، وزادها القصور في أداء السلطة الفلسطينية دورها، كذراع للمنظمة في المناطق المحتلة عام 1967. ولتصويب دور المنظمة والسلطة يضع فياض خمسة شروط رئيسة: "إلى أن يصبح توسيع عضوية منظمة التحرير ممكناً.. أرى ألا يطرأ أي تعديل على برنامج منظمة التحرير، مع الإبقاء على مكانتها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
تفعيل الإطار القيادي الموحد والمكون من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل غير المنضوية تحت لواء المنظمة. لا تتطلب عضوية الفصائل من خارج منظمة التحرير في الإطار القيادي الموحد قبولها ببرنامج المنظمة.. وقد يكون مناسباً النظر في اعتماد الإطار القيادي الموحد بالإجماع التزام الفصائل كافة باللاعنف مدة زمنية محددة.. الاتفاق على أن تكون الحكومة الفلسطينية مخولة لأقصى درجة، يوفرها القانون الأساسي، بإعادة بناء المؤسسات وتوحيدها. الالتزام بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشاملة في فترة زمنية تسبق بستة أشهر على الأقل نهاية المرحلة الانتقالية المشار إليها في البند رقم 3 أعلاه..".
بالتدقيق، من غير الواضح عن أي برنامج لمنظمة التحرير يتحدث فياض، ولا يعطي للإطار القيادي الموحد أي مرجعية عملية، بل يعطي الحكومة سلطات موسعة، ويطالب بوقف المقاومة المسلحة. وعلى الرغم من أنه يطالب بوضع سقف لإنهاء الاحتلال في إجابته على السؤال الثاني، يبقي السقف معوماً، ما يعيدنا إلى وثيقة أصدرها عام 2009، بعنوان "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة"، من خلال البدء ببناء مؤسسات الدولة العتيدة تحت الاحتلال الإسرائيلي، لاكتساب مصداقية دولية.
وإذا كان الخطوط العامة لبرنامج عباس، كما حددها في كلمته في مؤتمر العقبة 2003، قادته إلى رئاسة السلطة مطلع عام 2005، فليس مستبعداً، بل من المرجح جدياً، أن تقود الرؤية السياسية لفياض إلى خلافته عباس، لاسيما أنه مفتاح الدول المانحة التي تتحكم بشريان حياة السلطة. وإذا وقع ذلك، فإنه سيعني تحولاً كبيراً ومفصلياً في مسار بنية النظام السياسي الفلسطيني، على حساب الدور القيادي والتمثيلي لمنظمة التحرير، وربما باتت واشنطن ترى أن هذا التحول أزف أوانه.