غزة - أمل حبيب "الرسالة نت"
المكان : قطاع غزة , الزمان : العاشرة مساء من أحد ليالي الحصار المظلمة.. الحدث: أصوات المواتير أمام المنازل والمحلات التجارية تلاحقك , وجلسات سمر على ضوء القمر في إحدى شوارع الأحياء القديمة بعيدا عن التلفاز ووسائل الترفيه الأخرى, وفي الصباح دخان كثيف يتصاعد من أحد المنازل وكأنه يتعرض لحريق مروع، لكن الدخان كان يتصاعد خلال إعداد خبز على فرن طيني.
هذه الأجواء والعادات الغزية سادت في القطاع بعد ما يزيد عن ألف يوم من الحصار, وعاد الناس لاستخدام أدوات قديمة لتسيير أمور حياتهم كانت في زمن أجدادنا الأصيل.
طعام بنكهة السولار
فبعدما غرق القطاع في ظلام دامس في أيام الحصار السوداء, نتيجة إدخال كميات محدودة من الوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء , عاد الناس لاستخدام الكاز لإنارة المنازل.
فالمواطن شوقي بشارة 30 عاما أحد عمال بلدية غزة من حي الشجاعية, تعود على أكل المجهز باستخدام "البابور", ويروي للرسالة عن تفاصيل يومه المحاصر بنبرة ساخرة :" نسيت كلمه غاز وكهرباء (..) تعودت على طعام البابور المبهر برائحة الغاز أو السولار " . أما بالنسبة لانقطاع التيار المتكرر يقول :" لا أملك المال لشراء مولد كهربائي , فأنا اكتفي بضوء الكاز وأنام على رائحته".
لسان حال المواطن شوقي هو حال الكثير من الأسر الغزية التي اكتوت بنار الحصار المفروض على القطاع ما يزيد عن ألف يوم .
فرن الطينة جمعنا
الحاجة الخمسينية أم زاهر من منطقة الشعف تعود بذاكرتها إلى أيام الحرب على غزة وتقول للرسالة بعد تنهيدة طويلة :" رغم ما لاقيناه من هول وفزع أيام الحرب , إلا أننا أمضينا أوقاتا جميلة حول فرن الطينة لإعداد الخبز ".
أم زاهر هي واحدة من أهل القطاع الذين فتحوا منازلهم لمساعدة الآخرين , و كانت تجمع النسوة في بيتها لإعداد الخبز سويا , وما يتخلل ذلك من أحاديث ممزوجة بالمزح والضحك كي يتناسوا الوضع المؤلم .
أما بالنسبة للأجواء العائلية للأسر الغزية تقول السيدة مرام أكرم أم لست أبناء من مدينة غزة أن حياتها قلبت رأسا على عقب بعد أيام الحصار المريرة التي تعيشها , ففي ليالي البرد القارص باتت تغطي أبناءها بدفء حنانها بدلا من التدفئة الكهربائية المفقودة , وتقول مستاءة:" أصبح النوم المبكر هو السمة الغالبة في حياتنا , وعمل أبنائي طلبة المدارس على استغلال وقت النهار لمذاكرة دروسهم ومراجعتها ".
يبدو أن حياة السيدة مرام قد قلبت رأسا على عقب وذلك بعد انتظارها وقت مجيء الكهرباء للقيام بالأعمال المنزلية , موضحة بان إغلاق المعابر واستمرار الحصار أدى إلى غلاء الأسعار وعدم قدرتها على شراء كل ما تحتاجه من راتب زوجها البسيط .
أبو الطاهر أحد عمال الأنفاق كان على عكس غيره , فلا يشعر بوجود حصار و قال متعجبا: "هل يوجد حصار في غزة؟ وأجاب على نفسه قائلا :" لا حصار فعبر الأنفاق كل شيء موجود ومتوفر في الأسواق ".
أما رجب حسنين27 عاما من هواة ركوب الدراجات النارية يقول :" رب ضارة نافعة , فعبر الأنفاق تم إدخال كميات كبيرة من الدراجات النارية (...) أحب أن أغير موديل دراجتي بين الحين والآخر والمعابر ساعدتني على ذلك ".
سمر على ضوء القمر
المتجول في أحياء القطاع البسيطة يرى بأن جلسات السمر على ضوء القمر قد عادت بعد سنوات الحصار , الحاج الستيني حجازي محمد يجلس مع أصحابه أما منزله في حي الشجاعية ويسترجعون الأيام الخوالي وما تحملها من ذكريات جميلة , وعند الضجر والملل يشكون سوء الأوضاع وإغلاق المعابر وانقطاع الكهرباء و...و...
وبعد استمرار انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة في القطاع لجأ الناس إلى استخدام المولدات الكهربائية لمواصلة حياتهم بشكل طبيعي , فأصوات (المواتير) اجتاحت معظم مناطق القطاع , ولكن المواطن أمجد محمد، 30 عاما موظف حكومي, مازال يرفض شراء واحد منها ويعلل ذلك تجنباً لمخاطره وخصوصا بعد ازدياد الحوادث الناتجة عنه.
من جهته أوضح أبو محمد صاحب إحدى المحلات الكبيرة لبيع الولدات الكهربائية بالقطاع بان إقبال الناس على شراء (المواتير) مازال مستمرا، معتبرا أن معظم الناس أصبح لديهم خبرة وبراعة في تشغيل المولد ولا داعي للخوف.
الحاج أبو أحمد من مدينة غزة يفتح أبواب منزله لجيرانه لمشاهدة مباريات كرة القدم سويا عند انقطاع الكهرباء في منطقتهم , فبعد شرائه للمولد الكهربائي أصبح أصدقاؤه يجتمعون في بيته لمشاهدة كرة القدم.
حذر اقتصادي
توجهت الرسالة إلى د. معين رجب أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر بغزة لمعرفة أثر الحصار على عادات وأنماط الناس في الصرف والاستهلاك , فقال :" أصبح الغزي يتكيف مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية المفروضة عليه , فيبحث عن البديل لما يعجز عن توفيره, وان لم يجد فانه يؤجل الشراء لحين تحسن الأوضاع.
وأوضح رجب بان غير القادرين على شراء السلع بسبب الحصار وارتفاع الأسعار يحجمون عن شراء بعض السلع الضرورية لأنه لا يملك بدائل أخرى , منوها إلى أن حصار ما يزيد عن ألف يوم يؤثر على سلوكيات الأفراد اقتصاديا بشكل متفاوت.
وقال الخبير الاقتصادي للرسالة نت :" قد يكون واحد الغزيين قد اعتاد الظروف الصعبة , إلا انه ينظر للمستقبل بشيء من الحذر والترقب والتهيؤ للاحتمالات السيئة ", وأضاف أن المواطن يتجنب القرارات بعيدة المدى ويعتمد على المعاملات الآنية والوقتية فيما يخص البيع والشراء وغيرها".
من جهته بين د. وليد شبير رئيس قسم الخدمة الاجتماعية بالجامعة الإسلامية بان أجواء الحصار انعكست على عادات الناس الاجتماعية بشكل سلبي وايجابي , فمن الناحية السلبية أصبح الشباب عاطلين عن العمل ولا يستطيعون توفير مستلزمات الزواج مما أدى إلى تأخر سن الزواج وارتفاع نسب العنوسة بين الفتيات وقلت المجاملة و التهادي في الزيارات الاجتماعية بسبب غلاء الأسعار في الأسواق.
وقال الأخصائي الاجتماعي :" رغم الأثر السلبي للحصار على عادات الناس الاجتماعية, إلا انه زاد الترابط والتعاون بين أفراد المجتمع بسبب ظروف المعيشة الصعبة ", مضيفاً :" بعد الحصار عاد الناس إلى الحياة البدائية واستخدام الأدوات القديمة بدلا من الرضا بالقهر والموت , فزاد الترابط الاجتماعي بعد انقطاع وسائل الترفيه كالتلفاز وغيره .وأشار إلى أن الأسرة الغزية أصبحت تجتمع على ضوء الكاز أو الشموع وتتناقش في أمورهم قادرة على التكيف مع الظروف القاسية , لافتا إلى أن للحصار مضار كثيرة إلا انه يجعلنا نبحث عن أمور بديلة لنشبع حاجاتنا.
لقد عاد الزمن الأصيل فعلاً, ولكن باختلاف كبير في عدة جوانب, حينما كان أجدادنا سعداء بحياتهم ونفوسهم راضية بهذه الأمور البسيطة.