قائد الطوفان قائد الطوفان

يعاني أزمة شح وارتفاع أسعار

إعادة تصنيع دخان المعسل محليا.. السم المغلف بالسلوفان

عدسة : محمود أبو حصيرة
عدسة : محمود أبو حصيرة

الرسالة نت- فادي الحسني

يستقل العامل حسن حمد في ركن خالٍ داخل أحد المقاهي المطلة على شاطئ غزة، ليعيد تصنيع الدخان المعسل على طريقته الخاصة، بعيدا عن أعين الرقابة أو حتى رواد المقهى الذين يشتكون وبشكل متزايد من سوء المعسل المستخدم في تدخين النرجيلة.

ورغم أن حمد (23 عاما) لا يملك من خبرة التصنيع شيئا، إلا أنه أفرغ 12 علبة معسل منتهية الصلاحية تزن نحو (1500 جرام) في صحن كبير من الألمونيوم، وقد بدا لونها قاتما، تميل الى العفن، ثم اضاف إليها قليلا من الماء، وأخذ يضربها بقدميه في محاولة منه لغسلها، كما قال.

لاحقا قام بتصفيتها من الماء، ثم اضاف إليها صبغة حمراء اللون، وخمس ملاعق عسل، ومرطب الجلسرين (كحول سكري) وقال متهكما "إن هذه هي حوائج الطبخة، حتى ننتج معسلا يصنع الكيف".

تلك واحدة من طرق تصنيع المعسل في قطاع غزة التي تخضع لاجتهادات أصحاب المقاهي وباعة الدخان، على ضوء اغلاق الانفاق اسفل الحدود الفلسطينية المصرية التي كان يستخدمها البعض في تهريب الدخان، وفق تأكيد تجار.

المشكلة التي تبدو في ظاهرها اقتصادية جراء رفع اسعار السجائر على نحو غير مسبوق خلال الشهرين الأخيرين، اضحت صحية بامتياز على ضوء الغش الذي يدخل في عملية تصنيع المعسل والخلطات التي تزيد نسبة الخطورة على صحة المدخنين، وبالتالي يقدم السم مغلفاً بالسلوفان.

"

باعة استغلوا ضعف الرقابة والجهل بالتذوق فأضافوا إليه مواد أكثر ضررا

"

ويبلغ عدد المدخنين في غزة والضفة الغربية نحو 800 ألف مدخن، فيما تنفق 450 مليون دولار سنويا على التدخين وهو مبلغ لا يشمل ما تنفقه وزارة الصحة على علاج أمراض المدخنين، وفق رابطة مكافحة التدخين بغزة.

إنتاج المعسل في الزوايا المعتمة والأركان الضيقة، أمر استدعى البحث عن الجهات الرقابية وبخاصة أنه يفتقد إلى الأدوات والمواصفات الصحية، رغم أن الامر في أصله (أي أصل التدخين) عليه اجماع بالضرر الصحي وفتوى بالتحريم.

شديدة الخطورة

 ولا يعد مبالغة القول إن بعض اصحاب المقاهي ومحال النرجيلة، قد لجأوا إلى إضافة الصابون في عملية التصنيع، والبعض الآخر اضاف قليلا من السائل المضاد للسعال، وفق افادة مدخنين اشتكوا من سوء تصنيع المعسل وخلطه مع مواد كيماوية وصفوها بأنها "شديدة الخطورة".

وقال أحمد صالح إن السعال اصابه بفعل تدخينه النرجيلة في أحد المقاهي، وقد تبدلت نكهة التفاح إلى طعم آخر اشبه بالدواء المستخدم في علاج السعال، مؤكدا أنه اضطر إلى مراجعة الطبيب وأخذ جرعات من الدواء جراء الحساسية الصدرية التي يعانيها والتي تفاقمت على اثر تدخين المعسل المغشوش.

وأشار صالح وهو في الثلاثينات من عمره إلى أنه حاول لاحقا تغيير المقهى لكنه اكتشف ان معظم المقاهي تلجأ إلى خلط المعسل منتهي الصلاحية بآخر حديث، حتى لا تغيب النكهة بشكل كامل من جهة، وتزيد الوفرة في الاستخدام من جهة أخرى، علما أن تدخين النرجيلة يدر على المقاهي دخلا كبيرا، وفق افادة بعض ملاكها.

وارتفعت قيمة ربع كيلو المعسل من 14 شيكل، إلى 100 شيكل في السوق المحلي، رغم أن صغار الباعة يشتكون من تراجع الاستهلاك، في حين أن اصحاب المقاهي أكدوا أن نسبة الاستهلاك على حالها، رغم رفع فاتورة المقهى.

ويشير أبو محمد عاشور وهو صاحب مقهى إلى أن زبائنه يستهلكون نحو 12 كيلو معسل اسبوعياً، بما يبلغ قيمته (4200 شيكل). وأوضح عاشور أنه اضطر الى رفع قيمة "نفس النرجيلة" من (10-5 شيكل)، حتى يغطي نفقات المقهى، دون أن يخضع لمساءلة أي من المسؤولين على قرار رفع القيمة.

ويستهلك أهالي غزة حوالي (4.5- 5 ملايين) علبة دخان شهريا، وفق وزارة الاقتصاد الوطني.

ارتفاع السعر

وبانتهاء العامل "حمد" من تصنيع المعسل على طريقته، بدأ نُدُل (جمع نادل) المقهى بالترويج لوصول كمية معسل طازج في أوساط الزبائن، لكنه أعلى سعراً حيث ارتفعت قيمة تدخين "رأس النرجيلة" من سبعة شواكل إلى عشرة، علماً أن تكلفة انتاج "النفس" الواحد لا تتجاوز حدود الشيكل.

وكان قد اخفى حمد عملية التصنيع عند زيارة "الرسالة نت" المفاجئة، وحاول الايهام بفتح الصناديق الفاسدة تمهيدا لإتلافها حتى لا يستفيد احد منها، فيما اقر لاحقا بإعادة استخدامها عبر عملية الخلط واضافة القليل من المواد الأخرى كـ"الجلسرين" الذي قال انه يزيد من كثافة "تنفيث" الدخان. وقد رفض التقاط صور لعملية اعادة التصنيع التي يجريها على المعسل.

محمد فرج وهو صاحب دكان صغير لبيع المعسل، حاول أيضا إنكار اعادة تصنيع المعسل، وغيره العشرات ممن التقيناهم في سياق هذا التحقيق، لكن عملية البيع على طريقة "النفل"، كشفت ما يخفون.

ويؤكد فرج الذي يجلس على مقعد خشبي تعلوه يافطة كتب عليها الدين ممنوع، أنه بعد عزوف الكثيرين من الزبائن عن شراء الصندوق الواحد الذي يزن 125 جراما بمبلغ (40 شيكل)، قام ببيعه بطريقة "النفل" (غير معبأ)، وهي طريقة تفتح الباب أمام التلاعب بالدخان المعسل.

"

الصحة: الغش يضاعف خطر النرجيلة والاحتراق يبعث 40 مادة سامة ومسرطنة

"

 وتعد هذه الطريقة مخالفة لما ورد في المادة (27) من قانون التبغ، التي نصت على عدم جواز اقتناء تبغ مصنوع أو أن بيعه أو عرضه للبيع إلا في علب مطوقة بالبندرول حسبما هو مقرر، كما أنها لا تجيز لأحد أن يفتح أو يكسر علبة تبغ مصنوع مطوقة بالبندرول لبيع جزء منها.

والبندرول عبارة عن طابع ورقي يلصق على المنتج ويحتوي على كود سري بهدف حصر كميات السجائر المنتجة ومنع التهرب الضريبي.

وعلى ذكر القانون، فإن التبغ عموما في قطاع غزة لا يخضع الى رقابة حقيقية، على ضوء انتشار الباعة بشكل لافت وغير مسبوق في المفترقات أو حتى الازقة الضيقة. علما أن هناك قانون صادر في الثامن والعشرين من مارس 2005، احتوى على 17 مادة نصت في مجملها على مكافحة التدخين، لكن شيئا منها لم يطبق على أرض الواقع حتى بعد مرور 9 سنوات من إقراره.

غياب قانون

غياب القانون فتح بابا أمام التاجر أبو خالد (اسم مستعار)، ليتجرأ على فرم التفاح وتجفيفه لفترة بسيطة، ثم خلطه مع المعسل منتهي الصلاحية، مع اضافة حوائج اخرى لا تمت بصلة إلى عملية التصنيع المتعارف عليها عالمياً.  

التاجر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه قال، لولا هذا الأمر ما استطاع تلبية حاجة زبائنه ولا سيما المراهقين الذين وصفهم بأنهم "لا يدركون الفرق بين الدخان الأصلي والمغشوش، ويظنون النرجيلة مجرد تنفيث دخان" على حد قوله.

وقد حظرت المادة (23) من قانون التبغ على صاحب معمل الدخان، أن يستعمل بدون إذن السلطة مادة غير الماء في تحضير التبغ للاستهلاك، كما لا يجوز أن يبقى لديه أي مادة أو شيء آخر يستعمل بدلاً من التبغ أو لزيادة وزنه.

ويبرر عماد شرف صاحب محل لبيع التبغ والمعسل في مدينة غزة، اللجوء الى هذه الطريقة، لعدم قدرة مدخني النرجيلة على شراء المعسل الأصلي ذي القيمة المرتفعة، الأمر الذي دفع بعض اصحاب المحال لإعادة تصنيع الدخان المعسل وبيعه بأسعار بسيطة.

ويشير شرف في الثلاثين من عمره إلى أن ملاك الانفاق القليلة التي لاتزال تعمل يشترطون الحصول على عمولة قدرها800 $ مقابل تهريب كرتونة (صندوق) سجائر تحتوي 50 (كروز)".

لكن عماد الباز وكيل وزارة الاقتصاد الوطني أشار إلى عدم قدرة وزارته على تحديد سعر الدخان لكونه سلعة ليست اساسية، مرجعا ارتفاع اسعاره إلى تحكم التجار على الطرف المصري بالأسعار، نتيجة اغلاق الانفاق الواقعة أسفل الحدود الفلسطينية المصرية.

ورغم اعتراف الباز، وهو مسؤول عن دائرة حماية المستهلك، بضعف خبرة مفتشيهم في الوقوف على سلامة اعادة تصنيع المعسل، إلا أنه أكد ضرورة استعانتهم بأصحاب الخبرة للوقوف على حقيقة "الغش" من عدمه.

وقال الباز "هناك متابعة من طرف المفتشين ومراقبة دائمة على جميع السلع بما فيها المعسل، لكن الأمر يحتاج بعض الخبرة للتأكد من أن المعسل مغشوش ام لا"، مشددا على ضرورة تعاون المواطنين مع الوزارة لأجل الابلاغ عن السلع المغشوشة، حتى المعسل.

لا مخالفات

وحتى اعداد هذا التحقيق لم تضبط وزارة الاقتصاد الوطني أي عملية غش عبر فرق التفتيش، ولم تسجل مخالفة بحق باعة التبغ أو اصحاب المقاهي.

"

حماية المستهلك: المفتشون يراقبون لكننا بحاجة إلى خبرة للوقوف على حقيقة الأمر

"

علما أن وكيل الوزارة أكد علمه بأن صناديق التبغ يجب أن تكون محكمة الإغلاق، لأن فتحها يعني تعرضها للتلف وفقدانها صلاحية الاستخدام، غير أنه قال "الأمر هامشي بالنسبة لنا (..) مع أن سلعة التبغ لا تعد سلعة اساسية في المجتمع، لكننا سنتابع الامر بشكل دقيق". وأضاف "رب ضرة نافعة، تدفع المواطنين باتجاه الامتناع عن التدخين".

وطالبت "الرسالة نت" "الاقتصاد الوطني"، بضرورة إخضاع عينات من المعسل للفحص من أجل الوقوف على النتائج، غير أن الأخيرة قالت إنه يتعذر عليها ايفاد مفتشيها إلى بعض المتاجر بسبب كثافة العمل.

الدكتور معين الكريري مسؤول اللجنة الوطنية العليا لمكافحة التبغ في وزارة الصحة، أوضح بدوره أن الغش في المعسل يضاعف خطر تدخين النرجيلة، وبخاصة أنه اشار إلى أن الاحتراق يبعث اكثر من 4 آلاف مركب كيميائي، منها 40 مادة سامة ومسرطنة.

وعبر الكريري عن استيائه جراء تعاطي النرجيلة، متسائلا "إذا كان المعسل هو عبارة عن مخلفات المصانع المنتجة للتبغ ونفايات دخان، فكيف ستصبح خطورتها عندما تغش؟!".

وقال "لا يحضرني ما يقوم بعض الباعة أو اصحاب المقاهي بعمله، ولكن العملية ليست اكثر من اضافة نكهة، وبالتالي هذا سيزيد خداع المدخنين ويضاعف الضرر على صحة الانسان بحيث يطال اجهزة الجسم كافة".

وأضاف " لا يقصد من عملية التصنيع الا تغيير الروائح واضافة مجموعة من المواد المتطايرة والنكهات التي تزيد من فترة استخدام الشيشة، وبالتالي فإن عملية الخلط والاضافة سيزيد الخطر المحدق بصحة المدخن اصلا".

ولهذا قال إن برنامج التثقيف الذي تشترك فيه وزارته مع وزارتين أخريين للحد من التدخين، والمتوقف منذ فترة، يجب أن يعاد تفعيله، وتفعل المراقبة، مطالبا جميع الوزارات بإصدار مجموعة مراسيم وقرارات لمحاسبة كل من هو تحت مسؤولياتها وتفعيل حظر التدخين في مرافق الوزارات وكذلك في الأماكن العامة.

وشدد على ضرورة عدم تحسين صورة الدخان المعبأ على حساب "النفل"، لأن الدخان بحد ذاته خطر وضار على صحة الإنسان، كما قال.

فائدة كامنة

وفي الوقت الذي ينظر للأمر بعين الخطورة، يرى رئيس رابطة مكافحة التدخين وليد القدوة، أن المسألة تكاد تنضوي عليها فائدة كامنة تتعلق بدفع مدخني النرجيلة للعزوف عن استخدامها نظرا لما تحمله من خطورة شديدة على صحتهم.

كما رأى القدرة في ارتفاع اسعار الدخان فرصة جديدة لمساعدة المواطنين الراغبين بالإقلاع عن التدخين"، معيبا على الشركات المستوردة للدخان والباعة تفضيل الربح المادي على صحة المواطن.

ويشير أهل الفتوى إلى أن النرجيلة أو ما تعرف بـ"الشيشة"، من الخبائث، وهي محرمة؛ لما فيها من أضرار على البدن، والمال، وقالوا إنه "لا يجوز استعمال هذه الأمور، ولا بيعها، ولا ترويجها".

وانسجاما مع بيت الشعر القائل "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم"، فإن الوزارات المعنية عليها أن تضع حدا لجملة المخالفات المتعلقة بتصنيع وغش المعسل بطرق مخالفة للمواصفات المعتمدة دوليا، الذي من شأنه ان يزيد من المخاطر على الحياة. وإن كان التدخين في أصله يشكل خطرا على الصحة، فمن باب أولى العزوف عنه.

البث المباشر