إبراهيم المدهون
كنت استمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن العلماء ورثة الأنبياء" فأمر عليه مرور الكرام، وأظن أن هذه الوراثة تقتصر على تناقل النصوص وتعليمها الناس، إلى أن عشت في رحاب الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، فأدركت المغزى الحقيقي لحديث رسول الله، بل رايته مجسد بكل معنى من معانيه وكل جانب من جوانبه في هذا الشيخ المقعد صاحب الهمة والعمل الدؤوب، والله كأن هذا الحديث يشرح بكل دقة حياة هذا الرجل.
فأي جانب من جوانب سيرته وأيامه ومعاناته وأمله وصبره وعبادته لم يرثه من نبي من الأنبياء، أو صديق من الأولياء أو صحابي جليل من صحابة رسول الله، فما نظرت إلى شطر وزاوية من زوايا الشيخ إلا وشاهدت شطر نبي وزاوية صالح وعمل صديق.
فأخذ عن نبي الله إبراهيم عليه السلام أنه أمة، فكان رحمة الله أمة في قومه، تَحرك حينما نام الناس وتقدم حينما تأخر الناس، وحمل اللواء حينما تقاعس الزعماء، ووقف بوجه الباطل حينما جبن الشجعان، حتى باستشهاده زلزل الأمة وأحياها وأيقظها، وواجه شارون كما واجه الخليل النمرود، وقُذف بالنار واللهب كما القي فيها إبراهيم عليه السلام.
وورث عن نبي الله يوسف بأن خُير بين الباطل والسجن، فكان السجن أحب إليه مما يدعونه إليه، ولم يخرج من معتقله إلا بمعجزة من الله.
وورث عن نبي الله أيوب ابتلاؤه بكل جزء من جسده، فجسده هامد لا يقوى على أن يحرك أصبع من أصابعه، وكان يتحمل من الأوجاع والألم ما لم يتحمله جبل.
فيأكل بألم، ويشرب بألم، ويتكلم بألم، ويسمع بألم.
حياته مجموعة من الآلام والأوجاع، ومع ذلك لا تسمع منه إلا لساناً شاكراً وقلباُ خاشعاً. وأما عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يترك شيء يفعله الرسول ويحض عليه إلا ويلتزم بأدق تفاصيله، أضف إلى ذلك أنه هُجر عن أرضه ووطنه، وأبعد عن مكان آبائه وأجداده ظلماً وعدوناً وطغيانا، فكان مهاجر في سبيل الله كما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا شبهه بالأنبياء والمرسلين، فكيف حاله مع الشهداء والصالحين؟ فان كان الصحابي الجليل عمرو بن الجموح رضي الله عنه قال: (إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة)، فماذا سيقول الشيخ وهو يتقدم إلى الجنة بجسدٍ هامد لا حراك فيه، ويسير مسرعاً في ركب الجهاد والشهادة بهذا الشلل الذي أصاب أركانه ولم يصب همته وحبه للجهاد.
حتى استشهاده رحمه الله كان يشبه استشهاد الصالحين وعظماء هذه الأمة، فإن استشهد عمر بن الخطاب وهو في صلاة الفجر، وإن ارتقى علي بن أبي طالب وهو يسير إلى الفجر، فاغتيل الشيخ بعد صلاة الفجر، ليكون رفيق عمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
رحم الله الشيخ الذي نال ما تمنى وارتقى إلى العلى بأفضل صورة وأجمل طله وأبهى منظر، فأي سيناريو هذا الذي أعد لزفافه إلى جنة الحور، والله إن استشهاده بهذه الهيبة والعظمة لتدل بما لا يدع مجالاً لشك أن عناية الله تعالى كانت ترعى هذا الزفاف المهيب إلى الجنان.