بين انطلاقة حماس نهاية سنة 1987، وحتى حظرها ووضعها على قائمة الإرهاب الأوروبية بجناحيها العسكري والسياسي سنة 2003، خمسة عشر عاماً سعت فيها أوروبا بصفتها ممولاً رئيسياً لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية إلى احتواء حماس، وإدماجها في الجهد الديبلوماسي المبذول في إطار تلك العملية. بدأت وتيرة تلك السياسة تتصاعد على الأرض طردياً مع تصاعد فعالية وتأثير أداء حركة حماس المقاوم. ففي الوقت الذي كانت تقصر فيه الحركة مقاومتها على الحجر والزجاجة الحارقة والتظاهرات وبعض المظاهر المسلحة، سعت أوروبا إلى التعرف على نجمها الصاعد في الساحة الفلسطينية من خلال لقاءات مباشرة من قبل مفوضين رسميين في الاتحاد، أو غير مباشرة من خلال واجهات سياسية سابقة أو أكاديمية، وهو ما عمق رؤية الاتحاد لطبيعة الحركة المختلفة عن نظيراتها في الساحة الفلسطينية من الفصائل العلمانية، التي كانت قد قطعت شوطاً مهماً على طريق التعاطي مع العملية السلمية، التي انطلقت في مدريد، وما زال قطارها يدور تائهاً دون أن يجد طريقاً موصلاً.
مع ظهور السلطة في أعقاب أوسلو، ووقوف حماس رافضةً لهذا الاتفاق بقوة، واستمرارها في عمليات المقاومة التي بدأت تأخذ منحىً أكثر شدة من ذي قبل، بدأت أوروبا بالنظر إلى الحركة على أنها تهديد للمشروع، الذي انطلق من محطته الأوسلوية بعد سنوات طويلة من العمل الغربي المتواصل، وتحديداً الأوروبي منه، للتأثير في منهج وعقلية منظمة التحرير من جانب ودولة الاحتلال من جانب آخر. لم يكن في العشرية الأولى من هذه العلاقة قوائم أوروبية للإرهاب كي تضع أوروبا فيها حركة حماس، ولكنها وصفت عملياتها لا سيما تلك التي أعقبت مجزرة الحرم الإبراهيمي سنة 1994، أو تلك التي تلت اغتيال المهندس يحيى عياش سنة 1996 بـ"الإرهاب". خلال تلك الفترة، أبقى الاتحاد الأوروبي -إلى جانب سياسة الضغط الأمني الممارس على حركة حماس من قِبل السلطة ودولة الاحتلال- على سياسة الباب الموارب في التعامل مع الحركة، على أمل أن تلعب أوروبا إلى جانب تلك السياسات القمعية دوراً ما في جلب الحركة إلى (بيت الطاعة) الدولي، وهو ما فشلت فيه، لا سيما وأنّ اندلاع انتفاضة الأقصى كان قد وضع حداً لكل تلك الطموحات.
حماس على قائمة الإرهاب الأوروبية:
مع انطلاقة انتفاضة الأقصى في خريف 2000، ودخول جناح حماس المسلح (كتائب عز الدين القسام) على خطّ المواجهة بحِرَفية وفعالية عاليتين، لم يعُد الأوروبيون يتعاطون مع الحركة كحركةٍ يمكن تطويعها أو احتواؤها بطرق كلاسيكية، كما تراءى لهم في الوقت ذاته بأن ما بنوه عبر سنوات أوسلو آخذ بالانهيار. ولطبيعة النظرة المختلة لكل من طرفي الصراع في الانتفاضة فإن اللوم من قبل الأوروبيين وقع على الفلسطينيين، مع كل عملية كانوا يقومون بها، إلى أن جاءت أحداث 11/9/2001، والتي شكلت منعطفاً دولياً خطيراً بإطلاق الحكومة الأمريكية الحرب على ما يسمى بـ"الإرهاب". القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن رقم 1368 و1373 لسنة 2001، والتي تمّ اعتمادها في أعقاب تلك الأحداث نادت بضرورة تصدي كل الدول "المناهضة لمحور الشر" إلى محاربة "الإرهاب" وتجفيف منابعه ومحاربة تفرعاته. وجد ذلك على الفور صدى مباشراً لدى الاتحاد الأوروبي، الذي فرغ في حينه من بناء استراتيجيته الأمنية، والتي جاء في سياقها اعتماد قائمة للمنظمات والأشخاص والمؤسسات التي يصفها بـ"الإرهابية" في العالم، والتي ينبغي تجميد أرصدتها، ومنع تحركها، والتصدي لما تقوم به من أفعال. في سياق المقاومة المسلحة التي أظهرتها حماس آنذاك والعمليات التي ذهب ضحيتها إسرائيليون، ضغطت (إسرائيل) وأصدقاؤها في الاتحاد وخارجه، من أجل اعتبار حركة حماس منظمة "إرهابية" ووضعها بالتالي على قائمة الاتحاد الأوروبي المختصة بهذا.
دفعت سياسة الباب الموارب بالاتحاد الأوروبي إلى الاستماع لرأي الخبراء، الذين نادوا بضرورة إبقاء نافذة مفتوحة يمكن للحركة أن تعود من خلالها عن طريقها المقاوم. وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد وضع كتائب القسام -الجناح العسكري لحماس- على قائمة الإرهاب، مدشناً بذلك محطة مهمة من محطات المواجهة المباشرة مع الحركة. في هذا الإطار حرص خافيير سولانا من خلال مستشاره الأمني والسياسي أليستر كروك على فتح جسور للحوار مع الحركة، على أمل التوصل معها لوقف كامل لإطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبالرغم من دعمه ورعايته التوصل إلى هدنة، كان رئيس الوزراء آنذاك محمود عباس قد نجح في إقناع حماس بها، واستمرت نحو خمسين يوماً، حيث حرصت حماس خلالها على تزويد المبعوث الأوروبي بتقارير وافية عن الانتهاكات الإسرائيلية للهدنة، إلا أن الاتحاد الأوروبي لم يحرك ساكناً للجم (إسرائيل) ووضع حدّ لتعدياتها، مما حدا بكتائب القسام إلى الرد بعملية فدائية نفذها الشهيد رائد مسك، تلاها قيام الاحتلال باغتيال المهندس إسماعيل أبو شنب، والذي انتهت باستشهاده الهدنة، التي كان الأوروبيون يعولّون عليها. حمّلت أوروبا على عادتها، تنفيساً عن غضبها جراء تلك التطورات، المسؤولية عن انهيار الهدنة لحركة حماس.
في هذا الإطار أقنع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن شركاءه البريطانيين للعمل لدى الأوروبيين على حظر الحركة بجناحيها السياسي والعسكري. وبالفعل عملت بريطانيا ممثلة بوزير خارجيتها آنذاك جاك سترو على إقناع الألمان والفرنسيين بضرورة التحرك ضدّ حركة حماس. وعلى الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها كروك لمثل هذا التوجه، إلا أن الاتحاد الأوروبي اتخذ قراره بالإجماع على أن يتم وضع جناح حماس السياسي، أسوة بجناحها العسكري، على قائمة الإرهاب الأوروبية، منهياً بذلك المهمة التي اضطلع بها كروك كجسر ربط بين الحركة والمفوضية الأوروبية، وهو ما شكل منعطفاً آخر في العلاقة بين الطرفين؛ سيكون له انعكاساته الشديدة في أعقاب انتخابات سنة 2006. وبالرغم من أن القرار الأوروبي لم ينص على الامتناع عن الحوار مع حركة حماس، بل كان مقتصراً على عقوبات اقتصادية بحقها، أبرزها تجفيف مواردها المالية، ظلّ الخوف والتردد والحسابات السياسية مخيمة على الأوروبيين، لتحول دون فتح حوار مباشر مع الحركة، على الرغم من قناعة الكثير من السياسيين بأهمية ذلك.
أوروبا والحروب الصهيونية على غزة:
في ظلّ هذه الأجواء سعى الأوروبيون إلى الالتفاف على الحكومة الشرعية، وتمرير سياساتهم ودعمهم الاقتصادي، من خلال مؤسسة الرئاسة الفلسطينية التي تساوقت مع هذا المنحى المنحرف في العلاقات الدولية. وقد سُجلت على خافيير سولانا وزير خارجية الاتحاد الأوروبي آنذاك، أنه مارس التحريض السافر على حكومة حماس، داعياً الرئيس عباس إلى اتخاذ خطوات جريئة، بإسناد أوروبي، للتخلص من الواقع الذي نتج عن انتخابات التشريعي، مما عنى ضمنياً الدفع نحو انقلاب مبكر على حركة حماس وحكومتها. ثم جاء الحسم الذي أقدمت عليه الحركة في قطاع غزة في إطار ما أسمته التصدي لانقلاب كان يعدّ له فريق دحلان في قطاع غزة. ومع الإعلان رسمياً عن حكومة الطوارئ برئاسة سلام فياض عقب ذلك، تنفس الأوروبيون الصعداء؛ إذ عادوا لبناء العلاقات مع الحكومة الجديدة على النحو الذي كانت عليه، واستمر التعاطي في الوقت ذاته مع حماس وحكومتها بمنطق المقاطعة والتجاهل والتجاوز.
وقد برز ذلك أيضاً في موقف الاتحاد من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط ، والذي استحق من الاتحاد الأوروبي عشرات التصريحات الصحفية، أو المواقف المتعاطفة مع عائلته، بينما لم نلمس جزءاً يسيراً من هذا التعاطف أو البيانات مع آلاف المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
محددات الموقف الأوروبي:
ينطلق الاتحاد الأوروبي في موقفه من الحركات الفلسطينية من ثلاثة منطلقات أساسية:
1. قناعة الأوروبيين التامة أن (إسرائيل) وُجدت لتبقى، وأن أيّ محاولة لنفي وجودها عملياً هو تعدٍ ينبغي مواجهته وعدم التسامح معه.
2. المقاومة العنفية للاحتلال أو الكفاح المسلح ضده هو "إرهاب"، وبالتالي فحق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها أمام هذا الإرهاب حقّ مطلق، أما الحق في مقاومة الاحتلال فيكون فقط بالوسائل غير العنيفة.
3. العملية السلمية هي السبيل الوحيد لحل الصراع العربي الإسرائيلي، والعلاقة سياسياً مع أيّ جهة كانت على الساحة الفلسطينية، هو على قاعدة الاعتراف بمخرجاتها.
من هنا يمكن فهم مواقف الاتحاد الأوروبي من حماس سواء في أثناء الحروب عليها أو خارج هذا الإطار. فحماس في نظر الأوروبيين حركة "إرهابية" بالرغم من شعبيتها الواسعة وثقلها النوعي في الساحة الفلسطينية؛ ولكنهم في الوقت ذاته يبقون الرهان على إمكانية احتوائها فلسطينياً أو إقليمياً.
المحكمة الأوروبية محط اشتباك آخر:
بعد أعوام من رفع حماس قضية على الاتحاد الأوروبي في المحكمة الأوروبية العامة بهدف رفع اسمها من قائمته لـ"الإرهاب"، ظفرت الحركة بمرادها بشكل صدم الأوروبيين عموماً نهاية سنة 2014. وعلى الرغم من الفرح والتفاؤل الذي عمّ أوساط حماس حينئذ، إلا أن الأمور عادت بعد شهر ونصف من صدور القرار لتنكفئ مجدداً عبر إصرار الاتحاد الأوروبي (بتحريض من قوى معينة فيه ودفع أمريكي وإسرائيلي قوي) على التقدم باستئناف على قرار المحكمة الأوروبية، بهدف تثبيت اسم الحركة على قائمة "الإرهاب". تزامن ذلك مع عملية إعادة نظر عميقة في حزمة القوانين الناظمة لآليات عمل المحاكم الأوروبية، بما يتيح للأخيرة التساوق مع توجهات مجلس الاتحاد، فيما يتعلق بقوائم الإرهاب والعقوبات، من حيث الداخلين فيها والخارجين منها.
صادق الاتحاد في شباط/ فبراير من سنة 2015 (وبشكل يذكر بسياسات العالم الثالث العابثة بالمحاكم، حيث تُغيَّر القوانين حتى تتطابق مع حاجة السياسيين ورغبتهم) على تغيير القانون المتعلق بحق الطرف المقابل له في الاطلاع على الأدلة المقدمة بشأنه إلى المحكمة.
الحوار من خلف الأسوار:
تسيطر حالة الخوف والتردد على الساسة الأوروبيين، فيما يتعلق بإمكانيات التفاوض والحوار المباشر مع حركة حماس بسبب وصمها بـ"الإرهاب"، وهو ما يجعل إزالتها من القائمة أمراً في غاية الأهمية لحركة حماس وللأوربيين معاً. فالأوروبيون يدركون وزن وثقل وتمثيل حركة حماس في الشارع الفلسطيني، ويدركون مغزى وجودهم القوي في المشهد، وهم في الوقت ذاته يعلمون يقيناً أن حماس ليست حركة "إرهابية" بالمعنى الكلاسيكي الذي يتعاملون فيه مع الآخرين. من هنا فقد حرص الأوروبيون، ومعهم الأمريكيون كذلك، على وجود قنوات اتصال غير مباشرة مع الحركة من خلال سياسيين سابقين، ولكنهم مفوضون رسمياً من دولهم، كما نقل عنهم في العديد من جولات الحوار، التي عقدوها مع قيادة الحركة لا سيما في الخارج. فوزارات الخارجية في الدول التي ينتمي إليها هؤلاء على علم بكل ما يجري من حوارات، ولربما تسهم بنفسها في وضع أجندتها.
ومع أن كل الحوارات الأوروبية التي تمت مع منظمة التحرير، قُبيل سيرها في طريق أوسلو، أو تلك التي يجريها هؤلاء المفوضون حالياً مع حركة حماس، تأتي في سياق محاولات التأثير على الموقف الفلسطيني تجاه (إسرائيل) وبالتالي احتواؤه؛ إلا أنّ مجرد وجودها، وفي كثير من الأحيان بشكل دوري، يؤكد على أنها طرفٌ لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه، كما لا يمكن اختزال العلاقة معه من خلال مطالبته العمياء بقبول شروط الرباعية. وهذا ما دفع مندوب الرباعية السابق توني بلير إلى عقد جولات حواره مع قيادة حركة حماس في الخارج، في الشهور الأولى من سنة 2015، وقوله في تلك الجلسات بأن شروط الرباعية أصبحت من خلفنا.
سيناريوهات المستقبل:
هناك ثلاثة سيناريوهات يمكن الإشارة إليها حول طبيعة العلاقة المستقبلية بين الطرفين:
1. أن تدرك الدول الأوروبية، مع تصاعد قوى المقاومة وتعثر مسار التسوية، ضرورة التعامل الواقعي مع حماس، وأن شروط الرباعية تعيق الدور الأوروبي وتجاوزها الزمن، وبالتالي تقرر استئناف علاقة براجماتية مع حماس؛ بحيث يتوافق ذلك مع رفض محكمة العدل الأوروبية الاستئناف المقدم لها من قبل مجلس الاتحاد الأوروبي على القرار القاضي برفع حماس من قائمة "الإرهاب"، وبالتالي رفعها كليّة من القائمة، وهو ما يزيل العقبات القانونية أمام إطلاق حوار مباشر مع الحركة أو حتى بناء علاقات معها.
2. أن تُلين الحركة من مواقفها المتعلقة بشروط الاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية الدولية، وهو ما يفسح المجال لعلاقات مستدامة مع الأوروبيين والأمريكان، بما قد ينعكس تماماً على تغيير المشهد الداخلي الفلسطيني.
3. أن يظل الاتحاد الأوروبي على موقفه الحالي من الحركة، مستفيداً من قرار سلبي قد تخرج به محكمة العدل الأوروبية بشأن قائمة "الإرهاب". وبالتالي تظل العلاقة بين الطرفين تراوح مكانها نظراً لتعقيدات المشهد المحيط، وهو ما يرتب على الحركة مسؤولية الاستمرار في العمل على تغيير الموقف منها سياسياً وقانونياً.
السيناريو الراجح:
من المستبعد جداً أن تلين حماس أو تتراجع عن مواقفها بشأن الاعتراف بـ(إسرائيل) وباقي شروط الرباعية؛ كما أن الواقع الحالي لا يجعل سيناريو استئناف العلاقة مع حماس مساراً مرجحاً، وبالتالي فمن المرجح أن يكون السيناريو الثالث هو سيد الموقف في العلاقة بين الطرفين مستقبلاً لاعتبارات عدة:
1. المحكمة الأوروبية تمّ تسييسها بهذا الشأن، عندما سمح باستخدام قانون الأدلة السرية في قضايا على شاكلة قضية حماس، وهو ما قد يرجح عدم نجاح الحركة بتجاوز هذه العقبة التي تقف أمام إمكانيات الانفتاح بين الطرفين.
2. رفضت الحركة فيما مضى شروط الرباعية الدولية المتمثلة بالاعتراف بـ(إسرائيل) وإعلان القبول بالاتفاقيات السابقة بين (إسرائيل) ومنظمة التحرير ونبذ المقاومة، وهي اليوم أدعى لرفضها بعد كل هذه المعاناة التي نتجت عن صمودها أمام الضغوط.
3. تأثير الدعاية الصهيونية بحق الحركة ما زال قائماً في الأوساط المؤثرة على الرأي العام الأوروبي وصناع القرار في الأقطار المختلفة، ومن غير المرجح أن تنكفئ هذه الدعاية في المدى القريب.
4. إن آلية اتخاذ القرار في مجلس الاتحاد الأوروبي تقوم على الإجماع، أو ما يسمى بالأغلبية المؤهلة وهو ما يعني ضرورة توفر توجه جارف بين دول الاتحاد الـ 28 نحو المصالحة مع الحركة أو بناء حوار مباشر معها، وهذا ليس متوفراً في الوقت الحالي، كما لا يتوقع أن يكون متوفراً قريباً، إذا لم تتغير الأمور جوهرياً فيما يتعلق بقضايا الخلاف.