القدس المحتلة- خاص بـ"الرسالة نت"
"لن نخرج من بيوتنا لو هدموها فوق رؤوسنا، أرضنا ليست مكان مساومة ولا مكان بيع".. هي حرب الصمود إذاً أعلنها المقدسيون متشبثين فقط بعزائمهم، لم يجدوا غيرَها رادعاً لحرب هدم المنازل التي بدأ الكيان الغاصب يعدّ لها، فآثروا البقاء في منازلهم حتى لو طالتها الجرافات وحولتها إلى ركام متناثر.
أهالي حي البستان ذاك الساكن الذي غطى منازلَه بأحجار القدس العتيقة لتكون دليلاً على تجذرهم في هذه الأرض، مصرون على البقاء فيه رغم المهلة التي حددتها لهم بلدية الاحتلال في القدس المحتلة لتركها، وما زالت عباراتهم تبعث القوة في نفوس من يسمعهم رغم الجرح الذي حفره الاحتلال في قلوبهم.
فهذا المواطن جواد أبو رمّوز لم يجد سوى عبارات التحدي لبلدية الاحتلال رداً على قراراتها الجائرة، ولكنه لم يتناسَ الخطر المحدق الذي يريد أن يحول حيّهم إلى حدائق للمغتصبين ويشردَ المئات ويحولهم إلى لاجئين في ذكرى نكبتهم.
يقول أبو رموز لـ"الرسالة نت": "لا يوجد أي مكان نذهب إليه، أين سأذهب مع أطفالي وزوجتي؟ لا يوجد مكان.. لحظة الخطر اقتربت وإن لم يوقفها أحد فنحن الضحايا".
أما الرجل الخمسيني فخري أبو دياب والذي امتلأت وسائل الإعلام باسمه ناقلة عنه عبارات الصمود في الحي، فكان يعيش مع عائلته في بيته المتواضع داخل ما يسميه بـ"أجمل أماكن الأرض"، ولم تمزق سكونَ العائلة المقدسية هذه سوى طرقاتٌ على باب المنزل في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل قبل سنوات.
يقول أبو دياب لـ"الرسالة نت": "تم يومها بالفعل تسليمنا إخطاراً بهدم المنزل، فلم أستطع النوم وبقيت أتساءل عن السبب في ذلك ولماذا فجأة سلموني إخطاراً لهدم بيتي، وفي الصباح وجدت أن كل عائلات الحي تسلمت صيغة الإخطار ذاته، فأيقننا بأنها حرب إبادة جماعية".
وبعد أن نزل هذا الكابوس على عائلة أبو دياب قرر أن يشكل مع مجموعة من رجال الحي "لجنة الدفاع عن البستان" والتي أرقت الاحتلال في جهود استنهاضها لهمم أهاليه وأقامت خيمة الصمود فوق ركام منزلين هدمتها جرافات الظلم التلمودي، ثم أمست رمزاً تختزل عبارات التحدي والثبات في ثنايا أقمشتها.
ويتابع أبو دياب: "نحن شكلنا هذه اللجنة كي تكون مركز مقاومة أهالي الحي لكل مخططات الاحتلال، وفي كل يوم لنا فعالية رافضة لمشاريع الصهاينة، وقد نجحنا بالفعل في التأكيد على أن هذه الأرض عربية مقدسية لا تقبل التهويد".
أطماع لا تتوقف
يقع حيّ البستان وسط ضاحية سلوان جنوب المسجد الأقصى المبارك، وتحدّه من الشمال أسوار البلدة القديمة والمسجد الأقصى، ومن الجنوب حيّ الثوري المقام على سفح جبل المكبّر، ومن الشرق حيّ رأس العمود، ومن الغرب حيّ وادي حلوة، وتبلغ مساحته حوالي 70 دونماً ويُشكِّل جزءاً من حوض رقم (29986) بحسب تنظيم الانتداب البريطاني، وملكيّة جميع أراضيه وعقاراته مقدسيّة فلسطينيّة خالصة.
أما حكاية هذا الحي المثقل بالتخوفات فبدأت منذ عام 2004 حين قررت بلدية الاحتلال المتطرفةُ تسليم 134 عائلةً مكونة من 1500 مقدسي أوامر بإخلاء بيوتهم الـ88 التي تشكل الحي بأكمله لإقامة ما تسمى بـ"حديقة الملك داوود" مكانها، وبقدر ما كانت هذه الخطوة مفاجئة إلا أنها كانت جزءاً من مشروع يسير على قدم وساق في المدينة المقدسة لإنشاء مركز صهيوني بديل للمدينة في البلدة القديمة ومحيطها كي يعزل المسجد الأقصى عن حاضنه الفلسطينيّ، ويحقّق تواصلاً بين المستوطنات الموزّعة على أطراف المدينة وبين البلدة القديمة والمسجد الأقصى.
ولكنّ القضية تعود إلى أطماع الاحتلال الذي يدّعي بأن كتبه التوراتية تحوي على ما يسمى بمشروع "الحوض المقدس"، حيث طرحت بلدية الاحتلال في تسعينيّات القرن الماضي مشروع تهويد المنطقة التي تشمل البلدة القديمة بكاملها وأجزاء واسعة من الأحياء والضواحي المحيطة بها وهي حيّ الشيخ جراح ووادي الجوز في الشمال وضاحية الطور في الشرق وضاحية سلوان في الجنوب.
ويتواصل الخطر الصهيوني على أراضي الحي ليقرر إنشاء مدينةٍ أثريّة مطابقةٍ للوصف التوراتيّ "لأورشليم المقدّسة" أسفل المسجد الأقصى وفي ضاحية سلوان وأجزاء من الحيّ الإسلاميّ في البلدة القديمة، وربط هذه المدينة بمجموعةٍ من الحدائق والمنتزهات والمتاحف والمواقع الأثريّة المقامة فوق الأرض في محيط البلدة القديمة، وخصوصاً في جنوبها حيث ضاحية سلوان وفي شرقها حيث جبل الزيتون وضاحية الطور، ومن ثم إحلال المغتصبين مكان المقدسيين بدءاً من المدينة القديمة وصولاً إلى كل تلك الأحياء.
ومن شأن كل ذلك عزل المسجد الأقصى المبارك عن الأحياء الفلسطينية في القدس مما يحرمه من أحد أهم خطوط دفاعه ويسهل على الاحتلال الاعتداء عليه، إضافة إلى ترحيل المقدسيين إلى مناطق أبعد أو حتى خارج مدينتهم كي يتحقق محو الهوية العربية والإسلامية للقدس واستبدالها بهوية يهودية.
ونتيجة تخاذل الموقف العربي والإسلامي وحتى الفلسطيني، نجح الاحتلال في تحقيق بعضٍ من مخططاته، مثل إنهاء عدد كبير من المزارات الأثرية تحت الأقصى وضاحية سلوان وفتحها أمام المغتصبين، وإنهاء القسم الأكبر من "مدينة داوود" الأثرية الموجودة اليوم فوق أرض حي وادي حلوة وافتتاحها أمام المغتصبين أيضا، ومن ثم إقامة بؤر استيطانية في الأحياء العربية الفلسطينيّة المحيطة بالمسجد الأقصى، خصوصاً في الحيّ الإسلاميّ في البلدة القديمة وفي ضاحية سلوان وحيّ الشيخ جرّاح.
"لا لنكبة ثانية"
حي البستان الذي يهدده الاحتلال بالإبادة عن خريطة المدينة المقدسة بالكامل أمسى الآن في زاوية أقصى مطامع المغتصبين ليقيموا حدائقهم الترفيهيةَ فوق أنقاض شقاء عمر المقدسيين وملجأهم الوحيد، وتمثّل ذلك في تسليم أهاليه رسالة تحذيرية بمغادرة قُدسهم قبل منتصف شهر حزيران القادم وإلا ستبدأُ بعدَها أنيابُ الاحتلال في تسويتها بالأرض غير مكترثة بأي شيء.
ولكنّ الرد المقدسي لم يطُل، حيث قررت لجنة الدفاع عن حي البستان مضاعفة فعالياتها الاحتجاجيةِ ضد سياسة هدم المنازل التي باتت نهجاً يملأ قلب الاحتلال الأسود، ومن ثم البقاء في المنازل حتى لو بدأت جرافات المحتل في هدمها.
ويقول أبو دياب:" نحن قررنا أن نضاعف فعالياتنا الاحتجاجية ضد سياسة الاحتلال وأن نقوم بعدة خطوات أولها صيام يوم الخميس القادم والإفطار الجماعي في خيمة الصمود، ومن ثم مواصلة إقامة صلاة الجمعة في الخيمة ومحيطها للتأكيد بأن الحي نابض في قلوب أهله ولن يتخلوا عنه".
وخيمة الصمود التي تتوسط الحي المقدسي الوادعَ أضحت بؤرة ثبات أهله وإصرارهم على البقاء، بل أمست رمزاً لنكبة ثانية يحاول الاحتلال زجّها في سجلات تاريخهم.. ولكنّ ردّهم هذه المرة كان مختلفاً عن اثنين وستين حولاً مضت.
من جانبها، تقول أم عادل إحدى سيدات الحي لـ"الرسالة نت": " نحن 11 فرداً نعيش في المنزل المكون من طابقين، وسيهدمونه قريباً، ويقومون بتهديدنا في كل يوم، ولكننا صامدون، ماذا يريدون؟.. أن نتركها لهم ونعيش في الشوارع؟ والله لن يحدث هذا ولن يسكنوه إلا على جثثنا".
ويكمل على ذلك أبو دياب:" زيادة همجيتهم لا تزيدنا إلا إصراراً على البقاء في حينا، ونسأل الله العظيم أن يكف شرهم عنا وأن ينصرفوا خارج مدينتنا".