لا تكاد مدينة الخليل المحتلة تغيب لأيام عن أحداث انتفاضة القدس المندلعة منذ أواخر العام الماضي، حتى تعود لتقدم خيرة شبابها وتتصدر مدن الضفة من حيث العمليات الفدائية وأعداد الشهداء والاشتباكات المتكررة مع قوات الاحتلال.
هذه المرة لم تقدم شهيدا فحسب، بل ارتفع عدد شهدائها إلى 57 بارتقاء ثلاثة منهم في حادثين منفصلين يوم الإثنين الأخير، وهم قاسم جابر وأمير الجنيدي، والذين ارتقيا برصاص الاحتلال على مدخل مستوطنة كريات أربع شرق الخليل بحجة إطلاقهما النار على الجنود، ويوسف طرايرة الذي أعدمته قوات الاحتلال في مكان قريب أيضا بزعم تنفيذه عملية دعس جنود.
وفور وصول الشهداء الثلاثة إلى المستشفى الأهلي في الخليل، تبين من خلال إجراء عمليات الفحص والتشريح أن مجموع ما تلقاه الشهداء الثلاثة من رصاصٍ في مختلف أنحاء أجسادهم بلغ 14 رصاصة.
الشهيدان قاسم جابر وأمير الجندي، جمعتهما الحياة الدنيا قبل أن تجمعهما الشهادة، حتى أنه ووفقا لما تداوله ناشطون من مدينة الخليل، فإن الشهيدين كانا قد افتتحا محلا لبيع الخضار والفواكه تحت عنوان "محلات الشهيد"، في إشارة إلى أنهما كانا يتمنيا الارتقاء شهداء للحاق بركب الآلاف، ويرفعا عدد شهداء انتفاضة القدس إلى 202.
وبحسب رواية الاحتلال، فإن الشهيد قاسم جابر (30 عاما) الذي يسكن منطقة البقعة، وزميله أمير الجنيدي (22 عاما) في منطقة الشعابة شرق مدينة الخليل، تسللا قرب منطقة مستوطنة كريات أربع، وتحديدا من مدخلها الشرقي، وباشرا بإطلاق النار اتجاه جنود ومستوطنين في المنطقة قبل أن يتم تصفيتهما.
جثمان وعَلَم
والدة الشهيد قاسم، توسطت جموع المشيعين الذين خرجوا يوم الثلاثاء من مسجد الحسين بن علي، وشاركت بإحدى يديها في حمل جثمان نجلها وصولا إلى مقبرة المدينة، فيما رفعت باليد الأخرى العلم الفلسطيني، في رسالة بأنها قدمته فداءً للوطن وأن دماءه ودماء باقي الشهداء ثمنٌ طبيعي للتحرير.
وخلال التشييع، اتسمت والدته بالقوة والصلابة، حيث تقول عن نجلها: "قاسم أحسن إنسان عرفته، كان متميزا بكل ما هو حسن، والناس يعرفونه جيداً، اعتقل لمدة خمس سنوات ونصف، وبعدها استقر ببيته، أنجب أولاد وبنات، وها هو يرتقي شهيداً، وأتمنى أن يصبرني الله على فراقه".
يذكر أن الشهيد قاسم متزوج وله ثلاثة أطفال (سندس، كتائب، مؤمن)، إذ وقفت زوجته برفقة شقيقتيه (نسرين وأنوار)، اللتين كانتا تبكيان بشدة دون والجميع يربت على أكتافهنّ محاولا ثنيهما عن ذلك.
تستذكر شقيقته الكبرى نسرين، آخر مواقفه معها فتقول: "ليلة استشهاده طلب مني سجادة الصلاة، وبعدما صلّى أعددت له القهوة فشربها وغادر، وصباحاً سمعت خبر استشهاده الذي قتلني بعد المرض"، بينما شقيقته الصغرى أنوار تقول: "لا أصدق حتى اللحظة خبر استشهاد قاسم، أنا أخته الصغيرة، كان يحبني كثيرا ويدللني".
قطعة من القلب
أما أمير الجندي، فله أخت واحدة وأربعة إخوة، تنهار دمعاتهم حينما يتذكروا ابتسامته التي يعتبرونها مفتاح الدخول إلى قلوب الآخرين، ولها سحر خاص كما تقول والدته عنه، مضيفةً: "أمير طيب ومحبوب من الجميع، دائما يضحك، كان متميزا بنشاطه وبكل شيء، مثل (الدينامو) في البيت، وبشهادته فقدت قطعة من قلبي، وان شاء الله يقبل شهيدا".
وبإذاعة نبأ استشهاده، سيطر الحزن على قلب شقيقه "أنس" الذي يكبره بعامين، ليقول عنه: "هو بمثابة الرفيق والصديق الذي لا يمكن العيش دونه، كان محبوباً جدا، لا أحد يعرف أمير إلا ويحبه، دائما مبتسم، ضحوك، البيت دونه لا يسوى".
وخلال مسيرات التشييع، وقف أنس بجانب رأس شقيقه الشهيد، يتأمله وكأنه يحاكيه ثم انحنى فوقه فقبله وهو يبكي، قبل أن تسقط دمعة من عينيه على وجه أخيه الذي غادره بلا عودة.
دهم وتفتيش
في يوم استشهادهما، اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال مدينة الخليل، ودهمت -وفق شهود عيان- منزل الشهيدين أمير وقاسم، وفتشوهما وعبثوا بمحتوياتهما، كما أغلقت مداخل عدد من البلدات بالحواجز الترابية.
وفي اليوم التالي، شيّع الآلاف من جماهير مدينة الخليل الشهيدين في مسيرة حاشدة، من مسجد الحسين وسط المدينة إلى مقبرة الشهداء في حارة الشيخ بالمدينة، مرددين هتافاتٍ مطالبة بالثأر، وعبارات التمجيد للمقاومة والدعوة لاستمرار الانتفاضة في وجه العدو الصهيوني، رافعين الأعلام الفلسطينية.