لماذا يمتن؟

زياد خداش
زياد خداش

زياد خداش

 

لماذا تموت الأمهات؟ ليس سؤالي هذا اعتراضا حاشا لله على إرادة الله. إنه السؤال الوجودي الكبير المقدّر لكل منا أن يسأله ذات يوم. سنسأله والدموع تخنقنا والعجز عن فعل أي شيئ يشملنا، وأعماق الوسادة الليلية تستضيف بطراوتها الواقية الحميمة وجوهنا المضطربة غير المصدقة، إذ كيف يموت كائن اللفظة الأولى والصوت الأول والقطرة الأولى والحضنة الأولى والظل الأول؟؟؟ كيف يختفي فجأة مركز الوداعة ليصبح هامشا، ومصنع الحنان ليضبح مرآبا؟؟

هذا ليس كلاما في مديح الأمهات والأمومة، إنه ممارسة للسؤال في أشّد حالاتها عجزا عن الإجابة، وفي أعمق انتصاراتها الوهمية عبر الكتابة، يقولون أن بالإمكان القبض على الزمن عبر الفنون، أنا لا أستطيع أن أتصوّر أمي لوحة أو نصا أو رواية أو قصّة، هل للوحة صوت صباحي دافئ يوقظني فجرا لأذهب إلى عملي؟ ويد عبقرية خشنة تتحسس ذقني لترى إن كنت أحتاج حلاقة؟ هل للنص عيون واسعة تتحرك في الغرف بحثا عما يعرقل خطوي وخطو إخوتي؟ هل للروايات رائحة مثل رائحة أمهاتنا اللذيذة؟؟ تلك الرائحة الحريفة التي لا شبيه لها، هي مزيج من سماء وماء، إنها رائحة الكون، رائحة الوجود، رائحة المحبة الخالصة، والضمير الكبير. إننا في الواقع لا نملك سوى أن نسأل هذا السؤال: لماذا تموت الأمهات؟ إنه من نفس سلالة الأسئلة الكبيرة التي وقفت أمامها البشرية على مختلف مراحلها صامتة ومحدقة وجامدة مثل، إلى أين نحن ذاهبون؟ ومن أين أتينا؟ وماذا تعني الحياة؟ وكيف السبيل إلى الخلود؟ وما هو الزمن؟

لم تمت أمي بعد، أتمنى لها أن تعيش طويلا، لكنها ذات مساء أو صباح أو ظهيرة أو ليل ستذهب بعيدا إلى غير رجعة وسأواجه بذهول نفس السؤال: لماذا تموت الأمهات، أمهات أصدقائي وصديقاتي يمتن، يتساقطن كما الملابس الخفيفة من على حبل غسيل، كانت ملاقطه متينة ذات يوم، لكن قوة الإعصار كانت أقوى من الملاقط والحبال، والبيوت وحتى الجبال.

ماذا أقول لرنا التي ماتت أمها؟ هل تكفي عظّم الله أجركِ؟ هل تكفي دموعي القليلة وشدّة يدي المرتبكة؟ بالتأكيد لا تكفي ولا تشفي عطش الروح إلى جواب كبير بحجم السؤال الأعظم: لماذا تموت الأمهات؟ لماذا لا يتحولن إذا كان لا بد من الاختفاء إلى شكل آخر من أشكال السماء أو الماء أو أشكال تتحرك بيننا، تراقبنا، تسامحنا، تحبنا، تخاف علينا، حين نمرض ونفشل، تدعو لنا بالصحة والنجاحات، حين نخطئ كعادتنا تصدر لنا صوت تأنيب خفيف، حين نتزوج وننجب يلحقنا فضولها الرائع وتدخلها الحبيب في كل شيئ. حين نكبر ونهرم تأتينا في الليل العميق لتتحسس أوجاعنا وتغلي لنا البابونج. وتصدر صوتا حبيبا يشبه الله أو الضمير: ستتحسن يا ولدي، أخرق بس في الفرشة ودفي حالك منيح.

البث المباشر