أوّل مدير تحرير لـ (الرسالة)

غازي حمد.. من حارات "يبنا" إلى الغرب سفيرًا لحماس

غازي حمد وكيل وزارة الخارجية الفلسطينية
غازي حمد وكيل وزارة الخارجية الفلسطينية

الرسالة نت- حاوره محمد أبو زايدة

زيّنوا ساحة البيت بالورود وأشجار الزينة المعلّقة في أغصانها حلوى، وانطلقت الزغاريد من حناجر نساء الحيّ يزفن غازي حمد على عروسه هدى، وجلس العريسان على "كوشة" الفرح، وأصواتُ الطبلِ تتناغم مع أغاني الأفراح التراثية، لكنّ صوت طرقٍ على الباب غير اعتيادي لفت نظر العريس.

كان من دقّ الباب أحد شباب مخيّم يبنا بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، ينادي على العريس، وبعدما خرج الأخير مستفسرًا، أجابه الطارق: "هذه مجموعة بيانات من حركة (ح.م.س) عليك توزيعها حالًا على بيوت المنطقة، وأنا أمتلك مثلها، ولا بديل عنك لهذه المهمّة (..) الوقت يسرقنا وعلينا الانتهاء من توزيعها قبل أن يصل الخبر للاحتلال الإسرائيلي".

تناول العريس غازي مجموعة البيانات، وذهب إلى زوجته وهمس لها "سأذهب في مشوارٍ سريع ثم أعود"، وتوجّه نحو حجرة نومه، وغيّر ملابس الزفاف، وتجوّل في زقاق المخيّم يطرق البيوت ملثّمًا، إلى أن أنهى ما في جعبته، ونفذ المهمّة على أكمل وجه، وعاد إلى بيته مع حلول المساء، وروى ظمأ شوق زوجته بقوله لها "أدّيت الأمانة التي تعهّدت بحملها".

هذه حكاية من عشرات القصص التي رواها لنا الدكتور غازي حمد -وكيل وزارة الخارجية الفلسطينية بغزة-، في جلسة امتدّ الحديث خلالها من قرية يبنا المحتلة عام 1948، مرورًا بولادته وطفولته التي عاشها في مخيّمٍ حمل ذات الاسم بمدينة رفح -يبنا-، إلى طريقه المعبّد بالمهام، فطرحنا عليه السلام، وتركنا على مكتبه ابتسامةً تخبره أنّ "قصّة غازي" ستكون "في ضيافة الرسالة".

 طفولة

"أحِن لمراتع الصبا، لشقاوتنا، ولصوت والدي الذي أعدمه الاحتلال أثناء انضمامه لجيش الفدائيين في سبعينات القرن الماضي، وعمري لم يكن يتجاوز الثماني سنوات، ولمنزلنا المكوّن من الطين والقش وبعض صفيح الزينكو، وأعمالي في حقل اللوز والبطيخ خلال المرحلة الابتدائية، والتي ما سئمت منها قط"، يقول حمد، مستذكرًا أولى مراحل حياته بعد ولادته عام (1964).

"قدمت استقالتي من الحكومة فعلق هنية على الكتاب: هل يترك الخل خليله؟"

ويشير إلى أنّ الوضع المادي لعائلته كان شديد الصعوبة، ما أعطاه حافزًا أن يدرس صباحًا، ويعمل مساءً، ويقضي الصيف بين البساتين ليعود بفتاتٍ من الأموال يعيل بها أسرته.

"كان أكبر حلمي أن أشتري كرة قدم"، يضيف حمد، وما كان يزيح عنه ظلام الفقر؛ وجوده في حلقاتِ ذكرٍ بأحد مساجد الحي، يتدارس القرآن وعلومه، حتى وصل إلى نهاية المرحلة الإعدادية، وشدّ اجتهاده، ونشاطه؛ قيادة الإخوان المسلمين بغزة، فاستقطبوه في جلساتهم.

يقول: "استمريت في جلسات القرآن حتّى بايعت المهندس عيسى النشار، على الدخول في جماعة الإخوان المسلمين عام 1982".

وأنهى الثانوية العامّة بمعدّل جيد جدًا مرتفع، وملأ استمارات التقديم بحثًا عن منحة لدراسته الجامعية، إلّا أنّ أبواب أحلامه بدراسة الطب البشري أو الهندسة؛ أغلقت ولم يجد سوى ممرٍ إجباري، ليدرس الطب البيطري في السودان، وعقد العزم على العلم.

غربة

"كانت ظروف السودان الاقتصادية صعبة، لكنّ شعبها كريم مضياف، وقدّمت لنا حكومته امتيازات السفر والمعاملات"، يقول حمد، ويؤكّد أنّ فكره السياسي تبلور في الغربة، وبدأ نهارًا يلتف حول الحلقات الفكرية، وفي ساعاتِ المساء يقرأ كُتب "حسن البنا، وحسن الترابي، وراشد الغنوشي، وكتاب موطأ مالك"، حتى كاد أن يحفظها عن ظهر قلب.

ويتابع: "في الوقت الذي كنا بغزة نركز على التربية، كانت السودان تضع ثقلها في العمل السياسي، ما وسّع مداركي، وأعطاني سعة في الأفق، وخبرة في السياسة".

"تعلّمت السياسة من كُتب الترابي والبنا والغنوشي واحتكاكي مع القيادات"

وبعدما تشرّب حمد من سياسة السودان؛ ما استطاع إليه سبيلًا، وأنهى دراسة الطب، عاد إلى غزة عام 1987، وراودته فكرة الزواج، لكنّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عرقلتها؛ فتوجّه إلى أحضان مجموعته الأولى التي بايعها على "الولاء والبراء"، والتي أوكلت في أوّل مهمّة له "قيادة منطقة يبنا، وتوزيع المنشورات، وكتابة البيانات على الجدران، وتشكيل مجموعات لقمع العملاء وتجار المخدرات".

ولشدّة حركة غازي في تلك الفترة، وعدم مكوثه في البيت إلّا فترة النوم، أطلقت عليه والدته لقب "أبو سبع رجلين"، والذي كلما استحضره ابتسم ودعا لها مفتخرًا.

ويردف: "بعد زواجي بعام جاء المخاض لزوجتي، ولمنع التجوّل الذي فرضه الاحتلال؛ وُلدت في البيت طفلة وأسميناها أسماء، وفي اليوم التالي طوّق الجنود منزلنا، واقتادوني لسجن أنصار مكثت في أقبيته 15 يومًا ثم إلى سجن السرايا 17 يومًا لاقيت فيهن أشد صنوف العذاب".

 تحقيق

التحقيق استمرّ مع حمد بأساليب تعذيب كاد يفقد الوعي من شدّتها، وفوجئ أنّها ضربة لحركة "حماس" عام (1989)، وبعد انتهاء التحقيق أنزلوه إلى السجن لـ"22 شهرًا"، ثم أعادوا معه وسائل التعذيب في قضية جديدة، على خلفية "تصنيع عبوات متفجرة، وتدريب عناصر من حركة حماس"، وحُكم على إثرها (5 سنواتٍ) أخريات، ولهنّ حكاية.

"كان "الضيف" مبتسم الثغر في السجن ينظّم للأسرى مسرحيات ترفيهية"

يروي قربه من قيادة الحركة في سجون الاحتلال بالقول: "تطوّرت علاقتي مع قيادة حماس مثل الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة.. ومحمد الضيف"، وبعد أن ذكر الاسم الأخير توقفنا قليلًا ليعرّفنا على شخصية "إنسان".

وتحدث عن القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف: "كان ضحوكًا ودائم الابتسامة، ولا يمر يوم دونما ينظّم لنا مسرحياتٍ تنسينا عذابات السجن"، ولم يطُل لقاء الضيف مع حمد في سجون الاحتلال، فقد أفرزت مصلحة السجون الأخير مع الشيخ ياسين في زنزانة واحدة، وبقي على خدمته طيلة مدّة مكوثه.

وأبرز ما لفت حمد في شخصية الشيخ ياسين، "إرادته خارقة، وصبره طويل على التعذيب، وفي كلّ مرة يعود لزنزانته يقرأ القرآن"، وفق حمد.

وتوالت مهام حمد داخل السجن من مجرّد عنصر يحمل رقمًا في زنزانته، إلى الناطق باسم أسرى حماس، ثم عضوًا في مجلس شورى الحركة بالسجن.

ورُغم الأعباء التي حملها حمد؛ إلّا أنّه اهتمّ في وضع خطّة يسير عليها، لتخرجه من عتمة السجن صاحب موقفٍ ورأي وتعلّم القيادة، ولم ينسّ أيضًا أنّ لعقله عليه حق، فاستطاع خلال سجنه أن يقرأ ما يزيد عن 4 تفاسير للقرآن كاملة، وتعلّم اللغتين الإنجليزية والعبرية في سجون الاحتلال، ثم درس علوم الحديث، والفقه، وطالع عشرات كتب التاريخ التي أدخلها زنزانته بعد صولاتٍ وجولات مع سجّانه.

ترتيب أوراق

ومع كلِ يومٍ يمُر على حمد في أقبية السجون، يراه "سنة ضوئية"، ويضعه ضمن "رزنامة حكمه"، منتظرًا ساعة الحرية، والتي عانقها عام 1994.

"خرجت لأعيد تأسيس نفسي خارج أسوار السجن، فتدرّبت على الشهادة التي حصلت عليها من السودان، ثم افتتحت عيادة بيطرية"، يقول حمد، ويوضح أنّه كان يُمارس المهنة "على مضض"، حتّى زاره فتحي حمّاد القيادي في حركة حماس، واقترح عليه إدارة جريدة باسم الحركة تحمل اسم "الوطن".

ومع انتهاء حمّاد من المقترح، تلقّفه غازي على الفور وكأنّه قد وجد ضالته المفقودة، وقرر بيع مستلزمات عيادته، وإغلاقها، وتحويل مساره على الفور للعمل الصحفي.

ويخبرنا عن تجربته: "لم أكن أملك الخبرة آنذاك، ولكنني تعلمت، وما ساعدني أن الجريدة كانت تصدر كل خميس(..)، ولأنّها شديدة المعارضة للسلطة تعرّضت للمداهمات عشرات المرات، إلى أن تمّ إغلاقها بعد عامٍ من تأسيسها".

ولأنّ حمد رأى راحته في العمل الصحفي، فلم يعد بعد إغلاق "الوطن" إلى مهنة الطب البيطري، بل أصبح مراسلًا للعديد من الصحف الدولية باللغتين العربية والإنجليزية، إلى عام (1997) حيث عرضت عليه قيادة الحركة أن يتولّى إدارة تحرير جريدة تود افتتاحها وتتحدث باسمها، تحت اسم "الرسالة"، فوافق على المقترح، وتولّى إدارتها حتى عام (2007).

وعن تجربة العمل في "الرسالة" يقول: "كانت تصدر كُل خميس، ومع صدورها يصلني استدعاء من الأمن الوقائي، وذات يومٍ كنت سأتعرض للاغتيال على خلفية كتاباتي فيها، لكنّ الرئيس الراحل ياسر عرفات قرر الإفراج عنّي واستقبلني وكان تركيز حديثه بقوله "أنت تقسو على السلطة في كتاباتك"، وهذا أعطاني تأييدًا أنني أسير على الطريق الصحيح.

 مناصب حكومية

ومع صدور قرارٍ "حماس" المشاركة في الانتخابات التشريعية، رشّحت الحركة حمد عن "رفح" برفقة فؤاد النحال، وعطالله أبو السبح، لكنّ النتيجة لم تكن لصالحها في المدينة، واستأنف عمله داخل أروقة الرسالة حتى وصله اتصالٌ من رئيس الحكومة الفلسطينية العاشرة إسماعيل هنية.

وزاد قائلاً: "أخبرني أنني من أكفأ الأشخاص لأكون ناطقًا باسم الحكومة، فانتقلت من العمل الإعلامي لفضاء واسع وهو الحكومي"، ولأنّه سعى أن ينسج علاقات طيّبة مع الجميع، فقد انفتح على الأحزاب السياسية الفلسطينية، حتّى قويت علاقته وبقيت خطوط التواصل مفتوحة مع كل التيارات.

ومن بعدِ عمله في الحكومة؛ شعر بشدّة الحصار الذي أطبق فكيه على جميع حركتها، فلم تستطع أن تُلبّي احتياجات المواطنين، فقدّم حمد استقالته لرئيسها "هنية"، ولكنّ الكتاب عاد إليه مكتوب عليه بخطٍ أحمر: "هل يترك الخل خليله"، فتراجع عن ذلك ضيفنا؛ واستأنف عمله.

"لا تغريني المناصب ومستعد للعمل بوابًا على إحدى الوزارات شريطة وحدة وطني"

ولم يتوقّف رُغم ذلك عن إبداء رأيه في المواقف التي يجد نفسه مرغمًا على كتابة مقالاتٍ فيها، فانتقد الكثير من أداء الحكومة، وكتب توصيفًا للواقع الذي يعيشه الغزيون، ووثّق تجربته على شاكلة مقالاتٍ كتبها، ووسّع من علاقاته السياسية والدبلوماسية حتى اعتبرته "حماس" مفتاحها مع الدول الغربية والسلطة الفلسطينية.

وضريبة لعلاقات حمد، تعرّض ضيفنالمحاولة اغتيال أثناء تمثيله الحكومة في اللقاءات مع الأجهزة الأمنية والفصائل الفلسطينية فترة الخلافات الداخلية بين حماس وحركة فتح، وعن ذلك يروي المشهد: "صعدت السيارة متجهًا لمدينة عرفات وسط غزة في منتصف الليل لاجتماعٍ مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، فأوقفنا ملثمون ورفعوا السلاح في وجوهنا، وأحاطونا من جميع الجهات، وطلبوا أن نفتح السيارة، وبعدما شككت في أمرهم أسرعنا وتعرّضت السيارة لما يزيد عن مائتي رصاصة، وما لطف بنا هو أنّها كانت محصّنة ضد الرصاص".

وفاء الأحرار

وسارت الأيّام، وتوالت جهود حمد الرامية لـ "إنهاء الانقسام الفلسطيني"، حتى عُرضت عليه رئاسة "وزارة الخارجية" عام 2012، لكنّه رفض أن يكون في الصدارة، وتمّ تعيينه وكيلًا لها.

وعن أجمل المشاهد التي رآها حمد خلال مسيرته، كانت نجاح صفقة وفاء الأحرار عام 2011، والتي كان لها لمسة وفاء بها عقب لقائه مع الشهيد أحمد الجعبري قائد أركان كتائب القسام الذراع العسكرية لحماس. وتابع: "بعد فشل الوسيط الألماني، تواصلت بشكل شخصي مع المدير المشارك للمركز الإسرائيلي الفلسطيني للبحوث والمعلومات غيرشون باسكن، وتبادلنا الأفكار، ونقلتها للجعبري، حتى تمكنا في النهاية من إنجاز الصفقة.

وترقرقت الدموع في عيون حمد دون إرادته، وبقي قلبه يتراقص شوقًا خلال انتظاره تنسّم (1027 أسير) فلسطيني الحرية بالحادي عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2011، مقابل الجندي جلعاد شاليط، ومع رؤيتهم أحرارا نظر إلى الشهيد الجعبري بابتسامةٍ أنّ الله لا يضيع أجر العاملين.

وأنهى حمد حديثه لـ"الرسالة" بقوله: "لم أفكر يومًا أين يكون منصبي سواءً أكان في سلطة المعابر التي ترأستها مدة من الزمن، أو في أي وزارة، وحتّى لو كُنت بوابًا على أبواب الوزارات، فالأهم عندي أن أرى شعبي متوحدًا، لا تغزوه الخلافات، ويعود الحُب عنوانًا لفلسطين".

photo93707781603960919

البث المباشر